ما أن تحين بطولة كأس العالم لكرة القدم، حتى يتغير مركز العالم، ليصبح كرةً صغيرةً تتصارع أقدام اللاعبين عليها، لبلوغ مجدٍ يتمثّل بالفوز باللقب. وهذا المسرح المحموم بالتنافس البطولي والعروض المهارية، أصبح كذلك مجالاً لعروض الموسيقى.
بهذا، غدت الأغاني جزءاً مهمّاً في أي مونديال، بوصفها شعاراً موسيقياً يميز كل بطولة. بدأ هذا التقليد مع مونديال تشيلي 1962، بأغنية El Rock del Mundial لفرقة Los Ramblers التشيلية. ومنذ ذلك الوقت، وصولاً إلى أغنية "هيا هيا" الرسمية لمونديال قطر 2022، طرأت تحولات كثيرة على أغاني كأس العالم.
في تشيلي، انطلق أول "شعار" موسيقي رسمي لكأس العالم، عبر فرقة الروك المحلية Los Ramblers. كانت أغنية روك آند رول كلاسيكية، أي أنها جاءت وفق الطراز الموسيقي السائد في الستينيات. اتسمت بلحن أنيق تصبغه حدة الغيتارات، بهارمونية الكوردات والحدة الإيقاعية، بما يتسق مع عنفوان هذا النوع الذي بلغ ذروة انفجاره مع إلفيس بريسلي.
تشكل تلك الفترة حقبة كلاسيكية لأغنية كأس العالم، لكنها أيضاً لا تمثل نسقاً متصلاً، يمكن تحديد عناصر تطوره، فهناك اختيارات على الأغلب لم تخضع إلى معيار موسيقي، من حيث الطابع العام. لكن بعض الثيمات تلتقي أو تطبع مرحلة. فأغنية World Cup Willie التي اعتُمدت لمونديال إنكلترا 1966، تابعت أسلوب الروك. لكنها بدت أقرب إلى النشيد منها إلى الأغنية، ولعلها تلائم إيقاع عصرها. لكن أسلوب الروك مختلف عن أغنية الفريق التشيلي، بإيقاع أقل حدة.
وكان هناك عنصر موسيقي جديد لعبته الأبواق في أغنية 1966، بينما تماهى أداء Lonnie Donegan مع الطابع الإنشادي والاحتفالي المبهج. فالنوع الموسيقي يقتفي إيقاع زمنه. والرموز الإيحائية بالبطولة، مثل مفردة Goal، والترحيب بالأجواء الفرحة، تماشت مع البطولة العالمية الوحيدة التي حققها البلد المضيف.
سيتخلل العنصر الموسيقي الجديد، الممثل بالأبواق، أول بطولتين في السبعينيات. لكن تطريزاً محلياً سيصبغ أغنية مونديال المكسيك 1970، لتحتدم بإيقاعات السالسا اللاتينية، لثقافة البلد المضيف، وأيضا كتأكيد على حضور الكرة اللاتينية، التي سيختتمها تتويج منتخب البرازيل للمرة الثالثة، بقيادة بيليه، كأكثر المنتخبات تتويجاً في البطولة العالمية.
ويعيداً عن الأسلوب الموسيقي، فهي تحدّد شخصية موسيقية شحنت أغنية كأس العالم بطابع مبهج، وطفولي. لكن هذا الجانب الإنشادي سيحاول إضفاء عنصر مقتبس من أصوات المشجعين في مطلع الأغنية الرسمية لمونديال ألمانيا 1974؛ Fussball Ist Unser Leben. على أن طابعها جعلها أقرب إلى نشيد كامب رسمي أكثر من تنظيم كأس عالم، خلافاً لما شهدته من جهد ملحنها.
ستنتقل أغنية كأس العالم إلى طابع أكثر ملحمية في الأرجنتين 1978، المونديال الذي أثير حوله لغط. كانت حكومة بيونس آيرس العسكرية تلغم المشهد بجرائمها ضد الشعب الأرجنتيني. لكن لحن الموسيقي الإيطالي، إنيو ماريكوني (Ennio Morricone) الحائز على جائزة الأوسكار، أضفى احتفالية انتصارية، بلحن جذاب، وبخلاف مطلع التصفيقات وشعار المشجعين الأرجنتينيين، أرجنتينا، كان El Mundial لحناً ذا مسحة رومانتيكية، تماهى من دون قصد مع رغبة النظام العسكري بتلميع نفسه. ومجدداً، فاز البلد المنظم بالبطولة، ليكون التتويج الأول للأرجنتين، في حقبة حكمتها أسوأ الدكتاتوريات العسكرية في القرن العشرين.
هذا الزخم الملحمي سيبلغ ذروته في بطولة إسبانيا 1982، عبر أغنية Mundial '82. الاستعارة الافتتاحية بروح الفلامنكو المحتدم، وما أضفاه صوت بلاسيديو دومينغو من مسحة أوبرالية، تبدو كما سابقتها، احتفال البلد المنظم أكثر من كونها تمثيلاً واقعياً لروح كرة القدم. مع فارق أن الروح الملحمية في إسبانيا ليست ملغومة سياسياً.
هذا التزاوج بين أغنية المونديال والبلد المضيف، يبلغ ذورته في بطولة أميركا 1994؛ إذ يستعير عنصراً تعبيرياً ينأى بنفسه عن أي صلة بكرة القدم وأجواء البطولة المفعمة بالحماس.
تستعير الأغنية الرسمية لمونديال المكسيك 1986، ثيمة سبقتها في الأرجنتين، تحديداً التصفيقات المتزامنة مع لفظ "مكسيكو" الحماسي، لكن حدته أقل. فأغنية El Mundo Unido por un balon سبق للحنها أن صدر قبل البطولة بأربع سنوات، ولم يكن مخصصاً لها، لكن فيفا اختاره كشعار رسمي للبطولة. وحظيت هذه الأغنية بانتشار عالمي لم تحظ به أغاني المونديال السابقة.
مع هذا، لا يمكن لعلاماتها اللحنية إلا أن تكون نشيداً مكسيكياً يتفق مع عصر الثمانينيات الغريب، باعتبارها تنميطاً كاريكاتورياً لموسيقى محلية مبتهجة بالإيقاعات وبمساحة مستمرة للتصفيقات، وربما لنهاية فيلم غرب مكسيكي سعيدة.
أما الأغنية غير الرسمية للمونديال بعنوان A Special Kind of Hero، كانت كلماتها تجسيداً لما فعله مارادونا، لكن سذاجتها الرومانتيكية بأسلوب البوب، لم تكن إلا اقتراحاً مغالياً بعيدا عن مناخات كرة القدم.
واللافت أن ذروة البوب في الثمانينيات اختفت من أغاني المونديال الرسمية. فيما حضر الروك مجدداً في مونديال إيطاليا 1990؛ إذ يتضح بأسلوب الثمانينيات المتأخر، وزخم الغيتارات الكهربائية المحتدمة، مع غنائية إيطالية تكاد تكون حالمة أكثر من كونها متقدة. آنذاك، حققت أغنية غير رسمية للبطولة في إنكلترا نجاحاً شعبياً أكبر.
جاء مونديال الولايات المتحدة 1994، وسط منعطف مثلته نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي. وكان عصر القطب الواحد. ربما، حملت أغنية المونديال الرسمية Gloryland، علامة لنشوة الاحتفال بأرض النصر. فالعناصر اللحنية كانت خليطاً من أسلوب السول بأداء جوقة الكنيسة السوداء، مع البوب والآر آند بي، بأداء Darly Hall، بينما اهتم الفيديو بإبراز معالم أميركية، ذات ترويج سياحي. وبعيداً عن المزج الجيد بين روح الجوقة السوداء، وموسيقى البوب البيضاء، كان هناك جانب اعتباطي تمثل بالدعوة إلى حياة من النعيم، أكثر من تجسيد الأغنية لزخم منافسة ملتهبة بالحماس.
هكذا، اتخذت أغنية كأس العالم طريقها من دون أي نسق. لم تنطوِ على أي عناصر ثابتة. كانت فقط تقترح لنفسها ملامح خاصة. لكنها لم تتحول إلى أغنية أيقونية أكثر تجسيداً لروح كرة القدم، سوى مع أغنية ريكي مارتن The Cup of Life. الأغنية الرسمية لمونديال فرنسا 1998.
لم تكن، موسيقياً، بالضرورة أجمل من غيرها، إنما كانت أغنية كأس عالم حقيقية. منذ اللحظة الأولى فيها، يتفجر الحماس؛ إذ تستهلها طبول موقعة على السامبا وأصوات صفارات. بينما أصوات الأبواق الراقصة، جاءت أكثر ملاءمة لروح التشجيع، بما تطلقه من حيوية وديناميكية، بصرف النظر عن التأنق الذي يجعل من لحنها ينال شعبية واسعة حول العالم.
استخدمت أغنية مارتن أسلوب البوب لاتين، مساهمةً في إطلاق الغناء اللاتيني إلى صدارة الاهتمام الشعبي. بهذا، تصل الأغنية الذروة مع أصوات الكورال الحماسية معلنة للجميع Go Go، مع التصعيد الذي يمكنه أن يكون إيحاء محاكياً لأحداث كرة القدم، مع انفجار يهز الملعب عند تسجيل هدف، أو إعلان صافرة الحكم انتصار طرف.
مع هذا، لم يصبح هذا العنصر الديناميكي لأغنية كأس عالم ثابتاً. ففي بطولة اليابان وكوريا 2002، عرفنا أغنية Boom لنجمة البوب الأميركية أناستاشيا. وعدا لفظ يوحي بالضربة والكلمات الخاصة بهذا الحدث، كانت الأغنية ساذجة. جاءت الأغنية بأسلوب الإلكتريك بوب، لكنها افتقرت إلى أي حيوية تجسد احتدام التشجيع والمنافسة الكروية المثيرة. كما أن مجيئها بعد أغنية مارتن البراقة جعلها موسيقى على هامش البطولة. وللتعبير عن ثقافة البلدين المنظمين في مونديال 2002، اختار فيفا موسيقى إلكترونية، تحمل ملامح الألحان التقليدية لليابان وشرق آسيا.
عاد الطابع الاحتفالي في مونديال ألمانيا 2006، لكن أغنية Celebrate the day اتخذت طابعاً يتسم برصانة لا تلائم الحدث. مع توظيف مؤثرات الـ Ambient التي يوحي مطلع غنائها بأنه افتتاح وطني. ثم تبدأ الملامح الإيقاعية بطابع كرنفالي، خصوصاً مع اللحن الراقص.
في جنوب أفريقيا 2010، ستصبح شاكيرا النجمة الأبرز لأغاني كأس العالم، بأغنية Waka Waka، لتصبح من أكثر أغاني كأس العالم نجاحاً، ما يعني أن حضور الروح اللاتينية في موسيقى كأس العالم جوهري، وإن كانت الإيقاعات مطعمة بالروح الأفريقية، لتعبر عن ثقافة المكان. كما أنها استندت إلى لحن أفريقي في الأصل، وحققت مشاهدات تتجاوز 3.2 مليارات على منصة يوتيوب.
هذا الحضور الأفريقي استحضرته أغنية Waving a Flag، للكندي من أصل صومالي، K'naan. الأغنية هي شعار مشروب كوكا كولا الراعي للبطولة. وكانت المرة الأولى لظهور الهيب هوب لأغنية كأس عالم، وأيضا حققت شعبية. ولعلّ بطولة جنوب أفريقيا هي الأكثر بروزاً من حيث الغناء.
في البرازيل 2014، كان لافتاً أن كثيراً من عناصر أغنية كأس العالم ثبتت، أي المزج بين ثقافات مختلفة. وتحت شعار وعنوان "كلنا واحد"، جاءت الأغنية الرسمية الأبرز للبطولة. فأغنية كأس العالم أصبحت متسمة بالانفجار والحماسة، لتطلقها إيقاعات السامبا مع صوت صفارة الحكم، إضافة إلى أصوات الكورال التي تنحو للمطابقة مع أصوات المشجعين، ثم الغناء بالهيب هوب وأسلوبها الإيقاعي، مع مشاركة جينفر لوبيز بروح لاتينية.
فيما اغنية سانتانا الاخرى لم تحظ بنفس اهتمام سابقتها.
وبعنوان "عالم واحد"، كانت اغنية RedOne الأبرز بين أغاني البطولة الرسمية التي أقيمت في روسيا عام 2018. واللافت هو المزج بين الهيب هوب المشحون إيقاعيا بأسلوب الهاوس، مع توظيف إيقاعات لاتينية.
على صعيد آخر، اتجهت اغنية ريكي جام بمشاركة النجم ويل سميث والمغنية إيرا سيرافي إلى مزيج من البوب بموسيقى إلكترونية والهيب هوب. وواضح أن هذا الأسلوب بعيد عن روح كرة القدم.
وانتقالا إلى الأغنية الرسمية لمونديال قطر 2022، "هيا هيا"، فإنها تقتفي أكثر العناصر وضوحاً في أكثر أغاني كأس العالم نجاحاً؛ أي إضفاء الطابع التقليدي للبلد المضيف، بوصفه بلداً شرق أوسطي. وجرى توظيف الإيقاعات التقليدية في قطر التي تشترك مع منطقة الخليج، بأساليب موسيقية عالمية مختلفة؛ إذ تتضمن ضربات إيقاعية بأسلوب الهاوس، وسمات لاتينية، في بعض الفواصل القصيرة على النفخيات، مع طبول الدرامز بروح لاتينية.
وكذلك سنلاحظ عنصراً تطوّر منذ 2010، في ترديد الجوقة بأسلوب راقص. ومنذ بطولة أفريقيا، كان التحول لافتاً بدمج واسع لأنماط موسيقية وثقافات من بلدان العالم. ففي الأغنية الأخيرة، سنجد أيضا سمات شرق أوسطية خليجية وأخرى غربية وأيضا لاتينية وأفريقية. "هيا هيا" دعوة عربية للاجتماع في حدث عالمي سينطلق بعد شهر واحد من اليوم.