"كارلوس غصن": وثائقيّ مُشوِّق يكشف وقائع بـ"حِيل" بصرية

09 يناير 2023
كارلوس غصن: هروب "مُذلّ" للخلاص من الشرنقة اليابانية (كازُهيرو نوغي/فرانس برس)
+ الخط -

 

"130 يوماً في الحبس الانفرادي، مُقيّداً بالأصفاد، ومربوطاً بسلسلة حول خصري. شعرتُ كأني فَقَدتُ إنسانيتي"، يقول كارلوس غصن في لقاء مع صحافيين، بعد أيام على فراره من اليابان. "حين يُعتَقل المرءُ في اليابان، تنتهي حياته": صوت رجل ياباني غير ظاهرٍ أمام الكاميرا.

هذا تقديمٌ لـ"هارب: القضية/الحالة الغريبة لكارلوس غصن" (2022، المنصّة الأميركية "نتفليكس")، للإنكليزية لوسي بلاكْستاد (1965). تقديمٌ لاحقٌ لتعليقات نشرات إخبارية، بلغات عدّة، تقول إنّ غصن، الرئيس التنفيذي لشركة السيارات اليابانية "نيسان"، متمكّنٌ من الهرب في صندوق خاص بآلاتٍ موسيقية.

لكنّ هاتين الجملتين، رغم كونهما افتتاحاً لفيلمٍ معنيّ بشخصية مُثيرة للجدل، لن تكونا أكثر من تعريفٍ بواقعٍ، ذاتي وعام. تعريف، ربما يُظنّ لوهلةٍ أنّه "تبرير" لذاك الأسلوب في الهرب، قبل أنْ يكشفَ السياقُ الحكائي، المشبع بموادٍ تؤكّد حالاتٍ، وقائعَ كثيرة، مستعيداً شيئاً من السيرة الحياتية/المهنية لكارلوس غصن.

هذا مرويٌّ على ألسنة أناسٍ ذوي جنسيات مختلفة (فرنسا واليابان ولبنان تحديداً) ومهنٍ عدّة (محاماة وصحافة ووظائف خاصة بالمطارات، إلخ.)، يمتلكون معطياتٍ، ويتابعون "قضية" اعتقال غصن في اليابان، والسابق على الاعتقال واللاحق به، فيقولون ما يُفيد التوليف (لوسي بلاكْستاد) في صُنع بورتريه بصري، يتحايل على المرئيّ كي يُظهِر بعض المبثوث في الخفايا. كلامٌ يُستفاد منه، بصرياً، لجعل البورتريه نفسه مرآةً قاسية عن شخصية تتحوّل حالاتها وتختلف وتتناقض.

لن تُبرِّر الجملتان هرب كارلوس غصن، بقدر ما تكشفان واقعاً، يعانيه أناسٌ في حالاتٍ ـ شبيهة وغير شبيهة ـ بحالة رجل يوصف بأنّه منقذ "نيسان" من انهيارها الماليّ. القول الياباني يليه قولٌ لغصن، يُكمِل شعوراً لديه في سجنه: "الدلائل كلّها تُشير إلى استحالة معاملتي معاملة عادلة. إذ ليس صعباً جداً التوصّل إلى خلاصةٍ، مفادها أنّي إمّا سأموت في اليابان، أو سأضطرّ إلى مغادرتها". هذا يقوله غصن بعد "خروجه/هربه". هو يُبرِّر هربه، لكنّ الفيلم غير معنيّ بهذا، بل بتقديم مَثَلٍ يعكس شيئاً من شخصية رجلٍ، يوافق على هربٍ "مُذلٍّ"، من أجل الخلاص مما يراه غير عادل في التعامل الياباني معه.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

لقطات عدّة، مأخوذة من تسجيلات بصرية وصُور فوتوغرافية وكاميرات مراقبة، تتحوّل إلى بورتريهات تعكس ملامح مختلفة في شخصية كارلوس غصن. التوليف يصنع "معجزات"، بابتكاره خطّاً درامياً يُظهر الشخصية الأساسية في حالات متفرّقة، بل متناقضة إحداها مع الأخرى، كاشفاً "تطوّراً" في سيرته، من تواضع (ربما يكون مُصطنعاً) في بداياته في "نيسان"، إلى تفاصيل فيزيولوجية، تُظهر وجهاً مليئاً بخبثٍ ووحشيةٍ وتشاوفٍ وتسلّطٍ، في مراحل لاحقة، قبل انهياره "الياباني" وخلاله. ذلك أنّ بلاكْستاد تتفنّن في ابتكار كلّ ما يخدم تلك "القضية/الحالة الغريبة"، والابتكارات تتلاءم ومسار غصن، كتلاؤمِها واشتغالات سينمائية: إعادة تصوير مشاهد الهروب، أصوات ممثلين/ممثلات يتولّون مهمّات/وظائف الشخصيات الأصلية، صُور فوتوغرافية مع إخراج ما فيها من تعابير تفضح الذات الفردية، عقلاً وحركة جسد ونظرات، للشخصية الأساسية.

يبدو فيلم لوسي بلاكْستاد كأنّه غير خالٍ من أي تفصيل مرتبط بالقضية/الحالة. قراءات تنتقد وتُحلِّل وتُفكِّك تفاصيل كثيرة، تبدأ بالقضية/الحالة، وتتشعّب لاحقاً إلى تاريخٍ وسيرة ووضعٍ، ياباني تحديداً. فيلمُ سيرة، وفيلمُ اجتماع/نَفسٍ/اقتصاد أيضاً. المعلومات والمعطيات والوثائق والتسجيلات مُقدَّمة بسلاسةٍ بصرية، غير حاجبةٍ عمقاً في التحليل والمقارنات المختلفة، بين أزمنةٍ وأمكنةٍ وحالات. تصوير (ستيوارت لاك ونيكولاس ديسانكوانتن) عملية الهروب، المُدعومة بتسجيلات خاصة بكاميرات مراقبة، هنا وهناك، تلتقط شيئاً من ذاتٍ واضطراباتها، فكارلوس غصن توّاقٌ إلى الخروج من شرنقة اليابان بأيّ ثمن، ومستعدٌّ لذلّ، يتمثّل بكيفية هروبه في صندوق موسيقيّ. ابتكار المشهد يكشف حجم الإذلال، ومُصوّر بأسلوبٍ محترف، يليق بأفلام التشويق البوليسي والاستخباراتي.

أقوال كارلوس غصن، المتعلّقة بوضعه المزري في سجن ياباني، ثم في ما يُشبه الإقامة الجبرية بين منزل وفندق، تمهِّد لما سيحصل لاحقاً. الأميركي مايكل تايلر سيُكلَّف بوضع خطة الهروب، التي تبدو كأنّها منبثقةٌ من مقولةٍ، تُذكر في السياق، وتحتمل أكثر من معنى: "الشعب الياباني مُنظَّم للغاية. إنْ يكن المرء مُنظّماً، فهذا يعني أنّ تصرّفاته قابلة للتنبؤ. إن تكن تصرّفاته قابلة للتنبوء، فهذا يعني أنّه ضعيفٌ". مقولةٌ تساهم في ابتكار خطّة الهروب، التي ستنجح، وستتيح لغصن الوصول إلى لبنان، الذي يُقيم فيه إلى الآن منذ هروبه في 29 ديسمبر/كانون الأول 2019.

أقوال غصن مستلّة من مؤتمرات صحافية ولقاءات متفرّقة له، فالجهة الإنتاجية تذكر، قُبيل انتهاء "القضية/الحالة الغريبة لكارلوس غصن" (95 دقيقة)، أنّ الشخصية الأساسية ترفض المشاركة فيه، قولاً وفعلاً. المشاركون/المشاركات يقولون أشياء مختلفة عنه، وعن القضية/الحالة. هناك انتقادٌ، بعضه مبطّن، للوضع الياباني، السياسي والاقتصادي والمالي والقضائي والاجتماعي. هناك استعادة طفولة، وجريمة يرتكبها الأب، لقول شيءٍ عن اضطراب نفسي يلحق بغصن، "إلى الآن".

وثائقيّ جديد يؤكّد مجدّداً براعة "نتفليكس" في تحقيق وثائقيات، غالبيتها مهمّة ومشوّقة، في الجوانب المختلفة، موضوعاً ومعالجة وسرداً وتقنيات، ومستندات ووثائق وتسجيلات بصرية وسمعية، تولَّف كلّها في سياقٍ درامي يكشف وقائع، ويفضح خفايا، ويقول أشياء من الحقائق.

المساهمون