تُمثّل المقتنيات التراثية للمكتبات، من مخطوطات، وأرشيف، وصور، وخرائط، وكتب مطبوعة قديمة، وتراث سمعي بصري، ما يُعرف بالتراث الوثائقي، وهو عبارة عن وعاء يحمل ذاكرة الشعوب، وجزءاً من الهويّة، وتوثيقًا لذاكرة المجتمعات. ومن دون هذا التراث، يندثر التاريخ ويغيب الماضي.
يواجه التراث الوثائقي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تهديدا مستمرّاً، يفرضه انعدام الاستقرار السياسي بالدرجة الأولى، إذ تشهد المنطقة نزاعات وحروباً تُسهّل تهريب هذا التراث والاتجار غير المشروع به. علاوة على ذلك، يتعرّض هذا التراث للتلف بسبب الكوارث، أو لغياب التكوين الذي يسمح بالتعامل معه بالشكل الصحيح، سواء من خلال الحفظ أو الصيانة. وعموماً، لا تتبع المكتبات في العالم العربي مساراً محدداً في الحفاظ على هذا التراث، كما تفتقر أغلبها إلى التكنولوجيا والكفاءات البشرية الضرورية.
في هذا الصدد، شهدت السنوات الأخيرة مساعي لتغيير هذا الواقع، بقيادة مكتبة قطر الوطنية، التي وقّعت في عام 2018 اتفاقية تعاون مع يونسكو، لتنفيذ مشروع أُطلق عليه "دعم الحفاظ على التراث الوثائقي في المنطقة العربية". مشروع يهدف إلى حماية تاريخ المنطقة العربية وهويتها، وأنواع المعارف فيها، من خلال حفظ تراثها الوثائقي. كما أطلقت المكتبة في عام 2020 مشروع "حماية" لمكافحة الاتجار غير المشروع بالتراث الوثائقي في المنطقة العربية والشرق الأوسط، الذي تتعاون المكتبة من أجل تنفيذه مع عدة منظمات ومؤسسات إقليمية ودولية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع يعزز دور المكتبة، التي اختيرت لتكون المركز الإقليمي لصيانة مواد المكتبات والمحافظة عليها في الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط منذ عام 2015، من قبل الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات (إفلا / IFLA).
يشرح مكسيم نصرة، أخصائي صيانة الكتب ومنسق عام إفلا في مكتبة قطر الوطنية، أبرز التحديات التي تواجه تنفيذ مشروع "حماية" على أرض الواقع، والخطوات التي اتُّخذت منذ إطلاقه. يقول نصرة إن "هذا المشروع أتى لمكافحة الاتجار غير المشروع بالتراث الوثائقي بالمنطقة العربية، خاصة في بلدان النزاع، مثل سورية واليمن والعراق".
من بين أبرز التحديات المتعلّقة بحماية التراث الوثائقي، من التداول غير القانوني، نجد طبيعة هذا التراث في حد ذاته، ذلك أن أي مخطوط على سبيل المثال، يسهل إخفاؤه أو تفكيكه إلى صفحات، وبالتالي تهريبه على دفعات. وتزيد الظروف القاسية التي تعيشها الشعوب العربية من تعقيد الجهود الرامية لحماية هذا التراث. ويُوضّح الأخصائي: "على سبيل المثال، يقع استغلال حاجة الناس للمال، مع غياب الوعي بقيمة المخطوط، فيتم شراؤه بشكل غير قانوني وتهريبه".
تغيب النصوص القانونية الواضحة المتعلقة بالتراث الوثائقي
ويضيف نصرة، أنه على عكس الآثار التي تعد محميّة إلى حد كبير، تغيب النصوص القانونية الواضحة المتعلقة بالتراث الوثائقي، بالإضافة إلى نقص التدريب الذي يتلقّاه ضباط الجمارك في هذا الشأن، لذلك "قد يتمكن أحدهم من تهريب مصحف للقرآن في المطار ويّدعي أنه ملكه، ولا يشكّ ضباط الجمارك بأنها عملية تهريب لتراث وثائقي". كما تساهم مواقع التواصل الاجتماعي في زيادة الطين بلّة، ذلك أنها باتت تمثّل مكاناً ملائماً لسماسرة التراث الوثائقي، وهو أحد الجوانب التي يعمل على معالجتها المشروع، من خلال حثّ السلطات المحليّة على مراقبة هذه المواقع، ورصد العناصر المُشتبه بها والمبيعات غير المشروعة.
وبالنظر إلى أن مشروع "حماية" يقوم أساساً على التدريب ورفع الوعي، تعمل المكتبة بالتعاون مع الإنتربول والجمارك، إذ تُقام دورات تدريبية لضباط الجمارك عن كيفية التعرّف على مخطوط إسلامي: "بدأنا العام الماضي دورات تدريبية عن هذا الموضوع، وعقدنا مؤتمرات، وأقمنا شراكات كثيرة كذلك، وهو ما يمسّ في أغلبه التراث الوثائقي الإسلامي"، وفقاً لتصريحات نصرة.
في السياق ذاته، تحرص المكتبة على رفع وعي أصحاب المكتبات في البلدان العربية، بدورهم في مكافحة الاتجار غير المشروع بالتراث الوثائقي، وحثّهم على التحقق من الأصل القانوني عند اقتناء مخطوط ما، إذ يمكن التأكد من أنه غير مسروق عبر التواصل مع وزارة الثقافة في البلد الذي أتى منه المخطوط، علماً أن مكتبة قطر الوطنية تُطبّق إجراء التحقق من الأصل القانوني.
على صعيد آخر، وخلال عام 2021 الذي اختيرت فيه الدوحة عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي، شاركت المكتبة في عدة فعاليات بخصوص التراث الوثائقي الإسلامي. يقول نصرة: "قدّمنا عدة محاضرات عن بعد عن دور المكتبات في الحفاظ على التراث الوثائقي الإسلامي. كما أقمنا منتدى عبر الإنترنت تحت عنوان "التطبيقات العلمية في التراث الوثائقي"، على امتداد ستة أيام بحضور خبراء. وقد استعنا بأجهزة تصوير ضمن المختبرات، وبالتالي، شعر المشاركون وكأنهم موجودون في المكتبة. وقد حقق المنتدى صدى رائعا جدا".
تمثل المكتبة التراثية، الواقعة في الطابق السفلي، "قلب مكتبة قطر الوطنية"، على حد وصف محمود زكي، أخصائي المخطوطات بالمكتبة التراثية وهي "تضمّ الكتب والمصادر القديمة عن تاريخ قطر والخليج والمنطقة العربية والإسلامية بشكل عام، ما يمثل الشق الأول من اهتمامنا. أما الشق الثاني، فيتمثل في التراث العربي الإسلامي، الذي يشمل العلوم الدينية واللغوية وغيرها، مع اهتمام خاص بالعلوم الدقيقة، من قبيل الفلك والطب والهندسة".
يؤكد زكي وجود اهتمام بجمع المخطوطات في المجالات السابق ذكرها وإتاحتها للجمهور؛ إذ يستطيع الباحثون والجمهور الاطلاع عليها، والقراءة فيها، واتخاذها مراجعَ للبحث، وأيضاً لتحقيق نصوصها، أي توثيقها ونشرها نشراً علمياً حديثاً، ينقلها من الشكل المخطوط، إلى المطبوع والمنشور.
ومن أجل عرضها وإتاحتها بشكل لا يُعرّضها للخطر، تضمّ المكتبة مختبراً متطوراً، تُجرى فيه عمليات الصيانة على أعلى مستوى، إضافة إلى التكنولوجيا المستخدمة لحفظ المخطوطات والكتب في ظروف مثالية، علماً أن المكتبة تُقدَّم دورات تدريبية، وورشاً في هذا الخصوص؛ إذ يوضح نصرة أنه "قبل بداية الجائحة، كانت هناك دورات تُنظم في المكتبة ومنح تُسند للمتخصصين في الصيانة والحفظ، من أجل التدريب وتطوير مهاراتهم، والتعرف على أساليب عمل جديدة".
الاهتمام بالتراث الوثائقي الموجود في مكتبة قطر الوطنية من أجل الأجيال القادمة
أما عن سير عمليات الحفظ والصيانة في المكتبة، فيشرح نصرة أن عمل الأخصائيين في قسم الصيانة والحفظ، يتمثل في الاهتمام بالتراث الوثائقي الموجود في مكتبة قطر الوطنية من أجل الأجيال القادمة، وينقسم العمل إلى شقّين؛ يتمثل أوّلهما في الحفظ (Preservation)، وهو عبارة عن صيانة وقائية لخلق الظروف المثالية لحماية هذه المخطوطات، أي الاعتناء بها من خلال دراسة كل المخاطر التي قد تؤثر بشكل سلبي عليها، كالمخاطر الطبيعية، مثل درجة الحرارة والرطوبة والضوء. "لذلك، يقع على عاتقنا أن تكون كل هذه الأمور مدروسة سواء في المستودعات، أو أماكن التخزين إن كان بالمختبرات خلال القيام بأعمال الترميم أو المعارض، إن كانت مؤقتة أو دائمة".
يوضح نصرة، أن الظروف في المكتبة التراثية، تُعدّ مثالية، نظراً إلى أنها افتُتحت منذ أربع سنوات تقريباً. مع ذلك، يعمل قسم الحفظ على دراسة كل المتغيرات الطبيعية، أي الحرارة والرطوبة والضوء، إلى جانب رصد الملوثات الموجودة في الجو. "بشكل عام، هناك أمور طبيعية، كالحشرات والعفن، تؤثر بشكل سلبي أحيانا على المخطوطات، لأنها بشكل أساسي مصنوعة من مواد عضوية، إن كان مادة السليولوز، أو ما يُعرف بالبرشمنت المُصنّعة من جلود الحيوانات، ويكون أساسها بروتيني". نتيجة لذلك، تمثل المخطوطات المكان المناسب لغذاء البكيتريا والحشرات وغيرها، ما يتسبب في ظهور مشاكل أخرى، مثل الثقوب والتمزقات.
من هذا المنطلق، "تتمثل مهمتنا في السيطرة تماماً على الحرارة والرطوبة والإضاءة ضمن مقاييس محددة والتي تختلف حسب نوع الوثائق وتكون على أسس علميّة"، وفقاً لما أكدّه نصرة. ومن بين ما يحرص الأخصائيون الحفاظ عليه، هو التحقّق من مقاومة الألوان المستخدمة في المخطوطات للضوء وعدم تأثرها سلباً به. "ولهذا الغرض، لدينا أجهزة حديثة على غرار جهاز Microfading testing. نختبر هذه المقاومة بجزء من المخطوط يبلغ حجمه ميكرومليمتر، والمدّة التي يتطلبها تحمّله للأشعة فوق البنفسجية قبل أن يبدأ تدهور اللون".
كما تبرز مخاطر مرتبطة أساساً بطريقة التعامل مع المخطوط، ذلك أنه في بعض الأحيان، تُحفظ المخطوطات داخل صناديق غير مناسبة، أو يُفتح المخطوط بطريقة غير سليمة. في هذا الإطار، أفاد زكي بأنه في حال طُلبت قراءة مخطوط في المكتبة التراثية، فتكون داخل غرفة المطالعة وبضوابط معينة. يوضح: "إذا كانت حالة المخطوط المادية تسمح، يوضع على منضدة خاصة بحيث لا يُفتح الكتاب بدرجة كبيرة وتُقلّب الصفحات بحذر، وكل ذلك تحت إشراف أخصائي المكتبة".
في ما يتعلّق بعمليات الصيانة (Conservation)، فعادة ما تكون عند حدوث مشكلة خلال عملية اقتناء مخطوط جديد يكون قد تعرّض لضرر بسيط، ما يستلزم عملية ترميم تقوم على إصلاح الأضرار الموجودة لمنع تفاقمها، من قبيل التمزقات، ودرجة الحرارة العالية التي تؤثر على الحبر المستخدم في المخطوط، والرطوبة التي تتسبب في ظهور بقع تؤدي إلى هشاشة البقعة وتجذب البكتيريا. وتقع عمليات الصيانة في المختبر العلمي في المكتبة، الذي يضمّ أجهزة علمية حديثة معظمها من النوع غير الإتلافي، الذي لا يغير شكل المخطوط.
يوضّح نصرة أن هذه الأجهزة تُسمّى Spectrometers وهي "تعتمد على تفاعل الضوء مع المادة، ومن خلالها يُحدّد نوع الحبر المستخدم عبر معرفة تركيبته الكيميائية. هذه الخطوة مهمة جداً لعملية الصيانة والحفظ، وذلك لأهمية معرفة نوع المخطوط الذي بين أيدينا، والمواد المكونة له، لتحديد المواد الحافظة المناسبة له". كما يشير نصرة إلى أن مختبر الرقمنة في المكتبة متطور جدا، وهو من أهم المختبرات الموجودة بالمنطقة، بالإضافة إلى أن المختبر العلمي الذي يضمّ أجهزة Spectrometers هو من المختبرات الوحيدة في المنطقة.
كما تبرز الأهمية التي توليها مكتبة قطر الوطنية للتراث الوثائقي الإسلامي، الذي تزخر به، في جعل الجمهور العام يخوض تجربة الاطلاع عليه، ولكن ليس للاكتفاء بالوقوف على الأطلال. في هذا الصدد، يوضح زكي أن "الأهمية تتمثل في إخراج المخطوط من أروقة الجامعات وجعل الاطلاع عليه لا يقتصر على المختصين، أي تحويله لثقافة عامة، من خلال فتح المجال أمام الجمهور العام للإلمام بأساسيات المجال وأقله المعرفة بوجود كتابات قديمة بخط اليد قبل ظهور الطباعة، وبأنه كانت هناك علوم قديمة ولدينا ماض وتراث مُشرّف. لكن، لا يجب أن نكتفي بالاعتزاز والذكرى والبكاء على اللبن المسكوب، كما يقال، ونحن نتذكر أمجادنا، وإنما ندرس هذا التراث ونقدم الفائدة ونصل الماضي بالحاضر بشكل أو بآخر".