منصّة ماكس... نحو شيء ما صديق للأسرة

02 يونيو 2023
ارتبط اسم "إتش بي أو ماكس" بكونها تقدم إنتاجات للبالغين (بيتا زاورزيل/Getty)
+ الخط -

منذ الإعلان الأول عن تغيير اسمها، وحتى حدوث ذلك منذ أيام، واجهت "ماكس" التي كانت في السابق "إتش بي أو ماكس" مزيجاً من السخرية والاستغراب. فللوهلة الأولى بدا الأمر برمته خطوة عبثية لا طائل منها في أحسن الأحوال، أو تخلياً عمّا يجعل هذه العلامة التجارية علامةً تجارية في المقام الأول. ولأن الاستثمار في العلامة، متبوعاً بكل الجهود لـ"نموها" و"ترسيخها"، وغير ذلك من مفردات عالم التسويق، خطوة تستغرق وقتاً طويلاً وموارد كبيرة، سيكون من الطبيعي رصد ردود الفعل هذه. لكن، ماذا لو كانت هذه الخطوة، في جوهرها، تخلياً عن علامة سابقة بالفعل؟

عندما أعلنت "وارنر بروس ديسكفري" عن التغيير لأول مرة في التطبيق الذي أطلقته منذ سنوات كانت النيّة دمجه مع تطبيق ديسكفري بلاس، ضمن حزمة من الإجراءات لتقليص النفقات. لم يكن هذا التكتل وحيداً في مصابه، ولم يكن ما يعانيه سوى إشارة أوضح لما يشهده عالم منصات البث. فما بدأ بازدهارٍ وتوسع دفعا الكثير من الشركات للرهان على المنصات، بدا من الواضح أن هذا السوق وصل إلى حد الإشباع، ولم يعد من الممكن أن يتسع لمنصات جديدة أو يخلق، من العدم، مشتركين جدداً للمنصات الحالية. لم تكن هذه التحذيرات جديدة بأي حال، إلا أن الفوضى التي شهدناها بعيد جائحة كوفيد-19، وتأثيرها على الاقتصاد من جهة، وعادات الفرجة من جهة ثانية، أجّلت ما كان سيحدث بأي حال. ففي 2022، بدأت أعداد المشتركين بالانخفاض عند اللاعبين الرئيسيين، مؤكدة أن النشوة لن تدوم، وبأن صحوةً قاسية ستتبعها. وبالنسبة لشركات قائمة على وعود غير واقعية أحياناً بأرباح سريعة وهائلة، كثيراً ما تُتبَع البدايات المتفائلة بمراحل من "خفض النفقات" الذي نشهده في صفقات الاستحواذ والاندماج والتسريحات طبعاً، وهي بالمجمل الحكاية نفسها التي تحمّل أولئك الذين في الدرجات الأدنى كل العواقب. إلا أن التغييرات لن تنحصر بمشكلة إدارية فحسب، وسيكون من الطبيعي مراقبة أحجار الدومينو تتساقط حتى تصيب المضامين التي قد تكون وسيلتنا الوحيدة كمشاهدين للتقييم والإحساس بوجود كارثة ما.

هنا، يمكننا العودة إلى التغيير، إلى "ماكس" البسيطة، بوصفها عرضاً لمسألة أكبر. فلم يرتبط اسم "إتش بي أو" تاريخياً ببضعة أعمال جيدة وحسب، مثل "ذا سوبرانوز" أو "ذا واير"، وأخيراً "ساكسيشن"، إنما كان يرتبط أيضاً بكونها شبكةً تستهدف البالغين بأعمالها وموضوعاتها، وتكمن الرسالة في محي هذه الجزئية باتجاهٍ جديد نحو الشبكة "الصديقة للأسرة"، تلك التي توفر محتوىً للكل، من دون أي تخصص أو ضيقٍ لا يتلاءم مع المرحلة الحالية ومحاولات البحث عن مرابح جديدة فيها. ربما لا يبدو هذا الاتجاه إشكالياً بحد ذاته، إذ إن توفير مضامين تشمل جميع أفراد الأسرة أمر لا بأس به على الورق، إلا أنه في الحقيقة أعقد من ذلك، لأنه لا يتوقف عادةً عند الإضافة أو توسيع ما تقدمه المنصة، بل يشمل أيضاً حذف المضامين التي لن تتوافق مع غايات كخلق تجربة صديقة للأسرة أو سوى ذلك، وبهذا لا يمكن تصور أن الاتجاه الجديد - الذي يسعى لجذب أكبر كم من الجمهور - قد ينعكس على ما يُنتَج في المستقبل.

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

ولهذه المخاوف ما يبررها، فبينما لا يزال المستقبل موضع تساؤل، بدأ الماضي بالتأثر فعلياً مع حذف عدد من المنصات لأعمالٍ كانت تعرضها، لعدة أسباب، منها التخلص من دفع "الحقوق المتبقية" التي ينالها القائمون على الأعمال عند إعادة عرضها، أو لاعتباراتٍ تتعلق بما تراه هذه الشركات مطلوباً أو مرغوباً. لا تكمن خطورة هذه الخطوة بمجرد تهديدها لمصدر دخل الكثيرين، ممن يشنون اليوم إضراباً لنيل حقوقهم، بل تمتد إلى الخوف من زوال بعض الأعمال التي تحتكرها هذه الشركات، وهو ما أشار إليه بعضهم باعتباره تكراراً لما جرى عندما قررت استديوهات هوليوود الاحتفاظ بعددٍ محدود من الأفلام الصامتة، لتندثر باقي هذه الأعمال وتصبح متابعتها اليوم مستحيلةً. ومع كون خرائط السيطرة قد رُسِمت الآن، محددةً سطوة كل تكتلٍ في هذه المعركة، إلا أن الهدوء والسلام لن يتبع هذا التقسيم، كما يعرف المشاهدون اليوم. فبعد موجات من رفع رسوم الاشتراك، بدأت "نتفليكس"، على سبيل المثال، بالالتفات إلى مشاركة الحسابات التي كانت ظاهرة تشجعها الشركة نفسها في ما مضى، وتعدها خطراً وجودياً اليوم. لا تزال الخطوة محصورةً بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة اليوم، إلا أنها في طريقها لتشمل المزيد والمزيد من المناطق حول العالم، ويبدو أنها ستكون السياسة العامة، مثلها مثل خطوات عديدة، كالتنويع بين ريع الإعلانات والاشتراكات التي ستستند كلها إلى أسعار اشتراكات لا يتوقع لها أن تظل ثابتة لفترات طويلة، ومن المرجح أن ترتفع كل فترة لمواجهة التحدي الجديد الذي يختبر مرونة نموذج العمل هذا وحدوده.

ربما تكون "ماكس"، في النهاية إذن، مجرد علامة أخرى، ومقامرة قد تنجح أو تفشل في سوقٍ سريع التقلب. إلا أن حجم ما يرتبط بهذا السوق لا يسهّل مهمة الالتفات بعيداً عنه أو تركه ليفشل أو ينجح وحده. فاليوم، بعد سنوات من النزاع، نالت هذه المنصات الاعتراف الذي كانت تبحث عنه، ولم تعد أعمالها مبعدةً عن المهرجانات والجوائز، وصارت الأقدر على جذب المواهب الكبيرة، وهي صورة لا تتفق إطلاقاً مع مشهد اليوم، من اشتراكات ترتفع دائماً وإنتاجات مخيبة ومكتبات تختفي، وتترك للمستقبل - بأي حال - مهمة معقدة تكمن في تفسير كيفية وصولنا إلى هذا الحال.

المساهمون