موسيقى فيلم "باربي"... البقاء داخل العلبة

23 اغسطس 2023
أدت دوا ليبا أغنية Dance The Night (جيسون كورنر/ Getty)
+ الخط -

لئن شاهدت الفيلم الأميركي الجماهيري الجديد، "باربي"، فستشعر بالعطف على كلٍّ من منتجة الفيلم وممثلة الدور الرئيسي، مارغو روبي، وكاتبته ومخرجته غريتا غرويغ؛ إذ تبدو السيدتان، ومن ورائهما هوليوود، كمن يُجاهد في سبيل إرضاء أوسع شريحة ممكنة من الأميركيين، بغية تمرير الفيلم، لتحقيق أكبر نسبة من العوائد، وذلك في مجتمع منقسم سياسياً، يعيش حرباً ثقافية تدور رحاها بين يمين مُحافظ مُغالٍ ويسار تقدمي، مُغالٍ هو الآخر. 
من شأن ذلك أن حمّل دراما ترفيهية تجارية، تروي فانتازيا وردية عن دمية تُعدّ الأكثر مبيعاً في التاريخ، أكثر بكثير مما تحتمل، إذ صار لزاماً على باربي أن تُبيّض سمعتها وسمعة "ماتل"، الشركة المُصنّعة التي أنتجتها، لكونها أسهمت لعقود في تسليع صورة المرأة وتسطيحها، خصوصاً بين الفتيات الصغيرات.  
لذا، جعل النصُّ الدمى تتبنّى خطاباً نسوياً، تناهى ثقيلاً مُقحماً، يُنذِر باحتراب مُفترض على حكم العالم بين الإناث والذكور، من دون أن يُغفِل بالمقابل بث رسائل تُطمئن الشريحة المحافظة، تُدغدغ الماضوية الطوباوية للحلم الأميركي، من خلال الديكور والأزياء، وتصون عند المشهد الأخير، دور المرأة التقليدي في الإنجاب، حين تهمّ باربي بزيارة الطبيب النسائي، كأول خطوة لها بعد أن قررت التحوّل من دمية إلى بشر. 
كلّ ذلك فضلاً عن طرح مسائل فلسفية تترك المُشاهد في حيرة من أمره إزاء الزاوية والوضعية التي ينبغي عليه الجلوس فيها داخل الصالة: هل يتأمل المقارنة المعقودة بين عالم الدمى الخيالي ومستقبل البشرية في العالم الافتراضي، ويتفكّر في الأسئلة الوجودية عن الموت والغاية من الحياة، ومعنى أن يكون الإنسان إنساناً، أو أن يظلّ الإنسان دمية؟ أم يستمر برشف الكوكاكولا وقرش البوشار، ويتسلّى بمشاهدة كوميديا، يُفتَرض أنها مسلّية تستدعي نوستالجيا باربي؟  
أما لو كان الغرض من المشاهدة هو الكتابة عن الموسيقى المصاحبة للفيلم، فالمسألة تبدو أخفّ ثقلاً وأقل تعقيداً. بطبيعة الحال، لا تُعد الموسيقى إن صاحبت أي فيلم أو مسرحية، مكوّناً للعمل الدرامي، وإنما مُكمّل له، خصوصاً إن كان العمل ترفيهياً، الغرض منه أصلاً هو الإثارة والمتعة، وجذب المشاهد نحو الشاشة من عينيه وأذنيه، وليس من فكره وفؤاده.


علاوة على أن الموسيقى المصاحبة لفيلم باربي لم يوكل إليها حمل كثير من الرسائل، وإنما الاتصال موسيقياً بجمهور المراهقات ممن ينتمون إلى جيل زي، واللاتي سيُشكّلن القاعدة الجماهيرية الأوسع للفيلم فور إطلاقه في دور السينما. 
حتمت الطبيعة الاستعراضية للإنتاج، أن يكون للموسيقى المصاحبة إصداران؛ أحدهما ألبوم موسيقي بحت، أوركسترالي بمعظمه، بعنوان "المدّونة الموسيقية لموسيقى الفيلم المصاحبة"، أدرجت فيه المقطوعات المصاحبة للمشاهد الدرامية. فيه مختارات كلاسيكية، وتراكات أصلية ألفها كل من فنان الدي جيه مارك رونسون وأندرو وات (Andrew Wyatt). 
أما الآخر، فألبوم غنائي بعنوان "الألبوم"، كانت قد شُكّلت على وقع أغانيه اللوحات الراقصة على مدار الفيلم، والتي شارك بها الممثلون الرئيسيون، حتى بالغناء. 
من الإصدار الأول على سبيل المثال، جسد المشهد الأول ظهور الدمية باربي لتُحدث، بحسب رواية الفيلم، طفرة على سيرورة تطور ألعاب البنات، من دمى بلاستيكية على شكل رُضّع، تحصر مستقبل النسوة بالأمومة، إلى دمية على شكل حسناء مُتحررة، تخرج بالمرأة من بيت العائلة أو الزوجية، لتدفع بها إلى الفضاء العام. 
لأجل المشهد، استُدعيت المُقدمة المؤثرة والشهيرة من القصيدة السيمفونية المعنونة "هكذا تكلم زرادشت" من تأليف الألماني ريتشارد شتراوس (1864 - 1949)، والتي شاع استخدامها في السينما، خصوصاً لدى مصاحبة المشاهد التي تصوّر التكوين أو نشوء الخلق. كما في بداية فيلم الخيال العلمي الشهير سنة 1958 للمخرج البريطاني الأميركي، ستانلي كوبريك، "2001: أوديسة الفضاء".
من بين الأغاني الأكثر شعبية في الإصدار الأول، "الألبوم"، كانت Dance The Night للنجمة الصاعدة، ابنة الـ27 عاماً، البريطانية من أصل ألباني، دوا ليبا (Dua Lipa). حققت الأغنية رقم 30 على لائحة بيلبورد للأغاني الأكثر إثارة. كمعظم أغاني ليبا، يُميّز الأغنية لون الديسكو المُجَدّد، بظلاله التي تعود إلى العهد الكلاسيكي زمان الثمانينيات، حيث مجاميع الكمانات تخط ألحاناً على علوّ مرتفع، على وقع طبول الدرامز، ونبض غيتار الباص الكهربائي. 
ولأجل التلوين الثقافي، نسجاً على منوال إرضاء أوسع شريحة من الجمهور، جرى تحويل أغنية المراقص الشهيرة Barbie Girl من إصدار سنة 1997 لفرقة البوب الدنماركية Aqua، إلى خلفية غنائية يُنظم عليها الراب. تشاركت فيها كل من نجمة صاعدة أخرى في دنيا الهيب هوب، آيس سبايس (Ice Spice)، وأخرى لا تقل عن زميلتها نجومية هي نيكي ميناج (Nicki Minaj). المفارقة ذات الدلالة المتعلقة بالمزاج الأميركي العام، هو أن أغنية سبايس وميناج، ذات الملامح الأفرو - أميركية الطاغية، البعيدة ثقافياً كل البعد عن إرث الحسناء الشقراء، باربي، ما زالت تحظى لحد الآن بأوسع شعبية من بين أغاني الألبوم.


هكذا وفي المجمل، لا تسعى أي من الأغاني التي تضمنها فيلم باربي إلى تجاوز العبوة التجارية المعهودة لفيلم الاستعراض الجماهيري. أي بتعبير يستعير من قصة الفيلم، ليس ثمة من أغنية تكبدّت عناء الخروج من العلبة، كما فعلت الدمية البطلة، وذلك في سبيل خوض رحلة كشف معنى أشد غوراً للوجود، وطرح الأسئلة عن الغاية منه، بغية التحرر من حدود الجسد المادي، سواءً أكان لحماً ودماً، أم من البلاستيك اللدن.
ما عدا أغنية واحدة، هي لبيلي آيليش بعنوان What I was Made For، بالتعاون مع أخيها فينيس. ففي حين بدا الفيلم مُتخماً بالرسائل والمضامين، مُقحِماً للمعاني العميقة داخل سردية وردية تأبى إلا أن تظل سطحية، يدخل صوت آيليش القلب، عبر نافذة الأذن، كنسمة المساء، ليس بقوة الإثارة، بل بمنتهى الصدق.

المساهمون