نعيش في زمن قائم على رأس مال الانتباه، إذ تحاول كل شاشة أن تشدنا إليها، سواء كنا نتحدث عن "فيسبوك" و"إنستغرام"، أو "تيك توك"، الذي طوّر أسلوباً لجذب انتباهنا إلى حد الإدمان، إثر تتالي الفيديوهات.
يراهن رأس مال الانتباه على أسر حواسنا، خصوصاً البصر، فلا نبتعد عن الشاشة التي تحوي الأحداث والأضواء والرسائل الأيديولوجيّة. هذه المقاربة تبنتها منصة البث الأشهر نتفليكس، إذ نقرأ في تصريحات لريد هايستنغز، المؤسس المشارك والمدير التنفيذي، أن العدو الأول للانتباه والمشاهدة هو "النوم".
الحرب ضد النوم منطقية، هو مساحة غير سياسية، عقل النائم ملك لمخيلته، لا يمكن اختراقه بسهولة، وهنا تأتي تقنيات الوقوف في وجهه أو تهديده، تلك التي تظهر على الشاشة من دون أن ندرك بدقة هدفها، أو حتى نلتفت إليها.
يبدأ الأمر قبل أن نباشر بالمشاهدة، تصميم شاشة "نتفليكس" البسيط يغوينا، سهولة الانتقال تمكننا من رصد أكبر قدر ممكن من الصور على الشاشة، ويمتد الأمر إلى المقطع الترويجي الذي نراه بمجرد أن نترك المؤشر فوق مسلسلٍ لعدة ثوان. وهنا الخدعة، إن نسيناه، سيبدأ المسلسل تلقائياً، حتى لو أردنا أن نختار حلقة بعينها. يمكن القول إن عملية الانزلاق إلى المشاهدة شبه تلقائية، ويمكن فجأة أن نجد أنفسنا في "منتصف" مسلسل لمجرد أننا اقتربنا من صورة غلافه.
تدفق الزمن على "نتفليكس" قائم على أساس الالتصاق بالشاشة. بمعنى أن فرضية المتابعة المستمرة (Binge watching) تهدد شكل الحكاية، التي لم نعد نشاهدها على مدار 12 حلقة موزعة طوال الشهر، بل ثماني حلقات يمكن الانتهاء منها متتالية خلال يوم واحد، ما يعني أن شكل الدراما والحبكة لا ينتهي بانتهاء الحلقة، بل الرهان على المشاهدة الطويلة، تلك التي تحرمنا من النوم لنشعر بالرضا حين نعرف إجابة سؤال: "ماذا يحصل بالنهاية؟". ذاك السؤال الذي كان يستغرق أشهراً أحياناً، إن كنا نتابع مسلسلاً تلفزيونياً تقليديّاً. يزداد الأمر حين تمتلئ الصحف ومواقع التواصل الاجتماعيّ بالأخبار التي تحلل وتنتقد مسلسلاً بُثّ "اليوم"، ولم نمتلك الوقت الكافي لمشاهدته، لنغرق في الـFOMO، والرغبة بأن نشاهد ما فاتنا.
اللافت أن "نتفليكس" تتيح لنا أن نتخطى شارة البداية، أي أن "نستغرق" في المشاهدة مباشرةً، ولا نقصد فقط أن نتخطى الشارة في الحلقة الأولى، بل في كل الحلقات، أي تتيح المنصة إمكانية المشاهدة المتصلة من دون توقف. وعادة ما يظهر سؤال "هل ما زلت تشاهد؟"، بعد ثلاث حلقات أو تسعين دقيقة من المشاهدة المتتالية، لكن يعاد حساب الوقت في حال أوقفنا المسلسل، أو لمسنا أي زر في جهاز التحكم.
الميزة الأكثر إثارة للاهتمام هي إمكانية "تسريع" عرض المسلسل، تلك التي لا يمكن تفسير وجودها. هل المقصود بزيادة تدفق الزمن هو "تصفح" الفيلم لا مشاهدته؟ تجاوز ما لا يهمنا؟ يمكن تبني العديد من التفسيرات، لكن اختراق "نتفليكس" لأشكال الإنتاج السينمائي المتعددة، أي من الشعبي كـ"البروفيسور"، إلى الراقي الخاص بجوائز أوسكار كـThe Irishman، يعني الهيمنة على الصورة المتحركة، والانصياع لصيغة اقتصاد الانتباه، التي لا تهدد فقط النوم، بل أيضاً إدراكنا للزمن الواقعي، الذي لم يعد مُقنعاً كزمن الشاشة الذي يمكن التحكم بتدفقه.
لا نعلم بعد السيناريو الديستوبي الذي قد نصل إليه، فالنوم عدو قديم للرأسماليّة، زمن الاستراحة وتقطيع ساعات العمل والإعلانات واستراحة الغداء، كلها صممت لأجل ألا ننام، وأن نعمل فقط. وانضمام منصات المشاهدة إلى الحرب للهيمنة على وقت الفراغ، يعني سلبنا حقنا بالنوم، وتحويله إلى "تقصير في العمل". ربما نجد أنفسنا مستقبلاً أمام صيغة تهيمن حتى على الأحلام، تتيح لنا استهلاك الصور ونحن نيام، الشأن الذي ما زال حكراً على التجارب العلمية ودراسات النوم، لكن لا نعلم، ربما قد توفر "نتفليكس" جهازاً يتيح لنا أن "نشاهد" الأفلام بعينين مغلقتين.