يوسف شاهين... فلنرقص من دون "تِرِلِم"

26 يوليو 2023
أدى بنفسه أغنية "خد عينيا وشوفه بيها" في فيلم "المهاجر" (ماهر عطّار/ Getty)
+ الخط -

منذ فيلمه الأول "بابا أمين"، وحتى آخر أعماله السينمائية، اعتنى يوسف شاهين (1926 - 2008) بالأغنية والاستعراض، بصورة كفلت لهذا الجانب حضوراً لافتاً في كثير من أفلامه. كان شاهين مستمعاً جيداً لجميع الألوان والمدارس الموسيقية، دائم البحث عن الجديد، حريصاً على أن تكون الأغنية حاضرة في فيلمه، إلى حد أن رأى بعضهم أنه أقحمها على عدد من أعماله، خاصة في البدايات.

في "بابا عبده" (1950)، دفع شاهين فاتن حمامة إلى أن تغني بصوت إحدى المغنيات، وكان من نصيب فيلمه "أنت حبيبي" واحد من أوائل الثنائيات الغنائية في السينما المصرية تمثل في دويتو طريف عنوانه "يا سلام على حبي وحبك" لبطلي الفيلم فريد الأطرش وشادية. وفي فيلمه "المهرج الكبير" (1952)، قدم شاهين عملاً غنائياً استعمل فيه أدوات المطب كآلات موسيقية، وفق صورة اتسمت بالجدة وقتها.

تأثر المخرج في مطلع شبابه بالأفلام الأميركية الاستعراضية التي أُنتجت بكثافة في فترة الأربعينيات. هذه الخلفية حرضته على استقدام الاستعراض واعتماد الغناء في أفلامه، ليكون لهما حضور طاغ منذ بداياته، كما جاء في أفلام "ابن النيل" (1951) و"سيدة القطار" (1952) و"نساء بلا رجال" (1953). أولع شاهين بهذا الجانب، لدرجة أنه أفسح له موضعاً في فيلم سياسي مثل "جميلة" الذي تناول قصة بطلة المقاومة الجزائرية الشهيرة جميلة بوحيرد. كما قدم مع فيروز، في تلك المرحلة، واحداً من أبرز الأفلام الكوميدية الغنائية: "بياع الخواتم" (1965).

تثبت هذا الشغف بالغناء والاستعراض وتطور، فجاءت تجربته الأكثر نضجاً مع "عودة الابن الضال" (1976). تحرك شاهين خلال عمله السينمائي في مساحة واسعة بين الرمزي والواقعي، ليصنع واحداً من أهم أفلامه الذي صنف بعدها ضمن أهم 100 فيلم مصري. ومن خلال أجواء ميلودرامية هيمنت على الفيلم، كان للاستعراض والغناء حضور باذخ، تمثل في خمس أغان أحكم سبكها مع النص الشاعر صلاح جاهين الذي اشترك مع شاهين في الكتابة.

تتابعت بعدها استعراضات سينمائية حملتها أفلامه، فجاء ضمن فيلم "اليوم السادس" (1986) واحد من أشهر الاستعراضات السينمائية وأكثرها جاذبية "حدوتة حتتنا"، ليبث في النفس البهجة والخفة والعفوية، وبصفة عامة أفصح شاهين ببلاغة في هذا الفيلم عن جميع الأشكال الدرامية من الميلوداراما إلى الكوميديا إلى الاستعراض إلى الأغنية.

وفي فيلمه "العصفور"، قدم المخرج صوت الشيخ إمام للمرة الأولى في عمل سينمائي. حمل التتر نغم إمام إلى الأسماع عبر كلمات أحمد فؤاد نجم "مصر يمه يا بهية". كأنما أراد شاهين أن يعلن من خلال عمله السينمائي الذي ناقش هزيمة يونيو أن تغييب الصوت المقاوم والمعارض كان أبرز أسباب نكسة 1967، ليفرضه بقوة. ومثل ما ناقش العمل الفني الهزيمة، بشّر أيضاً -كما ذهب بعضهم- بالنصر، إذ قدم الفيلم عملاً أصبح، في ما بعد، الأغنية شبه الرسمية لانتصار أكتوبر 1973، وهي "شايلين في إيدنا سلاح"، للموسيقي علي إسماعيل.

بصفة عامة، رأى يوسف شاهين أن الأغنية والاستعراض في أفلامه أتيا دائماً بغرض تدعيم الأحداث، فلم يكن متاحاً الاستغناء عنهما أو حذف أي منهما "لأنه لو حدث، فسيقع خلل في سير وتدفق الأحداث، يؤدي في النهاية إلى إرباك المشاهد، وجعله يخرج من الفيلم في حالة من عدم الفهم؛ نظراً إلى فقد جزء هام من النسيج الدرامي للعمل، إضافة إلى أن الاستعراض يساعد على إبراز الأفكار الدرامية وعلى نموها وتطورها". هذا الشغف بالاستعراض الغنائي بلغ حدا ألح عليه أن يشارك بنفسه في أوبريت "اهتفوا باسم الإله" في فيلم "إسكندرية كمان وكمان" (1990)، لتتتابع الاستعراضات في "المصير" (1997)، حيث طوع المخرج الأغنية الاستعراضية لتتنبأ بأحداث العمل السينمائي قبل أن تقع.

ومن التجارب اللافتة أيضاً في سينما شاهين حضور فن الباليه في فيلمه "إسكندرية نيويورك" (2004). ففي المشهد الأهم من العمل، يتداخل رقص نيللي كريم وأحمد يحيى مع صوت علي الحجار وهدى عمار في صورة فنية مرسومة بإتقان، ليؤكد ذلك معنى صرح به المخرج حلمي حليم بأن يوسف شاهين هو المخرج الاستعراضي الأفضل.

هذا الاعتناء الكبير بالموسيقى والغناء عكس معرفة واسعة لدى شاهين، كما حرضه ذلك على الاشتباك مع مؤلفي موسيقى أفلامه وإجراء تعديلات على أعمالهم، ولعل أشهر هذه الوقائع ما جرى مع كمال الطويل، حين تدخل شاهين في طريقة غناء محمد منير لأغنية الفيلم "علي صوتك بالغنا"، ليرفض الطويل تدخله. حذف شاهين بعدها موتيفة من اللحن. ففي اللحن الأصلي جاءت الصيغة بالأغنية الشهيرة "ترقص ـ ترلم ـ أرقص"، ليستبدل مخرجنا الصمت بـ"ترلم"؛ فغضب الطويل، وتوعد شاهين بمقاضاته ومصادرة الفيلم، لكن سرعان ما اقتنع بما فعله شاهين.

تكرر الأمر مع الموسيقار جمال سلامة الذي فاجأه شاهين بحذف جميع أصوات الآلات في أغنية حدوتة مصرية، ليبقى البيانو والدف فقط، في ميل للبساطة لازم موسيقى أفلامه. كانت رؤيته أن على الموسيقى أن تساير الواقع الدرامي الذي يأتي في أحيان كثيرة بسيطاً، رغم شحناته الوجدانية.

في إطار هذا النزوع الموسيقي، فاجأ المخرج الجميع بتلحين أغنية "قبل ما" من فيلم "سكوت هنصور"، بعدما تأخر كمال الطويل في تلحينها، كما أدى شاهين بنفسه أغنية "خد عينيا وشوفه بيها" في فيلم "المهاجر".

المتتبع للموسيقى والأغاني والاستعراض في سينما شاهين قد يخالجه خاطر يعكس فرط اهتمامه بهذا الجانب؛ أي أن حضوره سابق على كتابة شاهين للقصة، إذ تأتي أحداث الفيلم مطبوعة باللون الموسيقي الذي اختاره بداية: فلامنكو أو تانغو أو كلاسيك أو شرقي. وخلافا لفترات راجت فيها الأغنية والاستعراض في السينما المصرية إذ أقحمها الصناع في أعمالهم؛ انتظمت الأغنية وكذلك الاستعراض في أفلام يوسف شاهين في البناء الفني لأفلامه كركائز أساسية، فلا فرصة لاستبعادها إلا وقد اختل الإيقاع واضطرب السنياريو.

المساهمون