The Big Lebowski... تلك السينما التي تناقض القاعدة الجماهيرية

18 مارس 2023
تحوّل الفيلم إلى أيقونة واتخذ منه بعضهم طريقة عيش (IMDb)
+ الخط -

لم يحقق فيلم "ذا بيغ ليباوسكي" The Big Lebowski نجاحاً واسعاً عند صدوره قبل خمسة وعشرين عاماً في صالات العرض الأميركية، إذ قُدرت عائداته بـ46.7 مليون دولار في شباك التذاكر العالمي، فكان بمثابة إخفاق ملحوظ مقارنة بما حققه الأخوان جويل وإيثان كوين مع فيلم "فارغو" Fargo السابق له بسنوات.

خلافاً لما أنبأت به تلك النتائج الأولية، تحول The Big Lebowski على مدار العقدين والنصف الماضيين إلى أيقونة سينمائية واسعة الانتشار، وأضيف إلى السجل الوطني للسينما الأميركية، ليغدو واحدًا من أشهر أفلام "كالت" (Cult movies)، وربما آخر نتاجات هوليوود وصولاً إلى تلك الفئة الصعبة التي ضمت أفلامًا كلاسيكية، مثل "بالب فيكشن" Pulp Fiction و"إن بروج" In Bruges و"فايت كلاب" Fight Club و"كليركس" Clerks.

يحكي الفيلم قصة ذا دود (جيف بريدجيز) الذي تنقلب حياته رأساً على عقب، عندما يخطئه أفراد العصابات بجيفري ليباوسكي (ديفيد هادلستون) المعروف أيضاً باسم "ذا بيغ ليباوسكي". يلتقي الرجلان اللذان يتشاركان الاسم نفسه، ولا شيء آخر، لحل نزاع حول سجادة، وينتهي اللقاء بطلب المليونير من ليباوسكي الآخر تسليم أموال الفدية لإحدى العصابات مقابل إطلاق سراح زوجته. وهي خطة تزداد تعقيداً، عندما يقرر صديق ذا دود، والتر (جون غودمان)، الاحتفاظ بأموال الفدية.

ظلت اقتباسات الفيلم وأحداثه تلهم جيلاً واسعاً من مشاهدي وصناع السينما أينما كانوا، حتى إن عالماً حيوياً أطلق اسم الشخصية الرئيسية، ليباوسكي، على نوعين من العناكب المكتشفة حديثاً، ناهيك عن الشهرة الواسعة التي اكتسبها ممثل الفيلم الرئيسي بشخصيته المسترخية وما ميزها من عبارات وأزياء، أشهرها رداء الحمام الذي ارتداه فوق الشورت القصير خلال الفيلم.

كان لـ"ذا بيغ ليباوسكي" الحظ في أن يتزامن عرضه مع الانتشار الواسع للإنترنت أواخر التسعينيات، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية. بفضل تلك المصادفة التاريخية، تحول الفيلم إلى موضوع لعدد من غرف الدردشة، إذ عثر محبو الفيلم الكوميدي على أقرانهم، واتفقوا على الالتقاء والتجمع لتكريم ذكرى الفيلم بما أتيح لهم من وسائل، وهو طقس يحافظ عليه المعجبون حتى يومنا هذا، عبر تجمعات تضم آلافاً من المعجبين الذين يحتفلون سنوياً بـDudeism، من خلال ما يسمى مهرجان ليباوسكي (Lebowski Fest)، وغيرها من السلوكيات الثقافية والطقسية التي طورها مشاهدو الفيلم مع مرور الزمن.

تعيد الذكرى الخامسة والعشرون على إنتاج فيلم "ذا بيغ ليباوسكي" سؤالاً جوهرياً حول أفلام "كالت" في العصر الحديث، وأسباب غيابها الملحوظ عن المشهد السينمائي في الآونة الأخيرة، على الرغم من تطور عمليات الإنتاج والتوزيع والتلقي مرات عما كانت عليه سابقاً. شملت موجة "كالت" أفلاماً انتشرت مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، وسط ظروف إنتاجية مشابهة، فغالبها هامشي في الإصدار الأولي، أو يميل لثقافة مضادة تضعه في مصاف الأفلام النخبوية، ويقع تحت نوع الخيال العلمي أو الرعب أو الدراما النفسية. بعيدًا عن النوع، ارتبطت تلك الظاهرة السينمائية بالوظيفة الاجتماعية عند نشوئها، واجتهدت في خلق جماليات جديدة من مواضيع منفرة كالفشل واليأس والإحباط والعنف، لكنها أرخت معاييرها مع الوقت وباتت أكثر عشوائية وتنوعًا بفعل التغييرات السوسيولوجية والفنية التي هددت وجودها، خاصة مع انتهاء عصر العروض الجماعية في صالات السينما، وانتقال تجربة التلقي إلى الوضع المنزلي مع تقنية VCR والأقراص الصلبة.

وفي حين استدعت طقوس المشاهدة الجديدة معايير إنتاجية وفنية مختلفة، إلا أن أفلام "كالت" ظلت في معظمها أعمالاً مخالفة أو تخريبية للأعراف التقليدية والأيديولوجية المهيمنة. لطالما استمتع رواد هذه الأفلام بخياراتهم المنتقاة بعناية. وعلى الرغم من أن وجود الجماعة المحدودة نسبياً هو شرط صارم لتصنيف فيلم ما تحت فئة "كالت"، فإن النوع يقوم بالتضاد مع فكرة القاعدة الجماهيرية على حد سواء. ففي حين يرغب أتباع الفيلم في مشاركة حماسهم مع أقرانهم، إلا أنهم حذرون أيضاً من انتشار الفيلم على نطاق واسع، واكتسابه جمهوراً أكبر من شأنه أن يضعف ثقافة تذوقهم. ظاهرة أسماها الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو بـ"التمايز"، إذ يكتسب صاحب التقييم المميز موثوقية من نوع ما لاختياره الفريد والبعيد كل البعد عن الثقافة العامة.

تخبرنا تلك المفارقة بالكثير عن وضع أفلام "كالت" الحالي، إذ تتنافى تلك السمة المميزة لأعمال السبعينيات مع طقوس المشاهدة الحالية عبر منصات البث ووسائل التواصل الاجتماعي التي تشجع تعميم الثقافة والتسويق الفيروسي (Viral) للمنتج عبر المساحات الافتراضية، في مواقع الويب والمدونات ومنتديات المناقشة، وتجعل المحافظة على "محدودية" انتشار العمل الفني أمراً شبه مستحيل، خصوصاً إذا ما نجح في اكتساب الأتباع، وهم الجمهور في قواميس أفلام "كالت".

حرمت الإتاحة الوفيرة للأعمال الفنية، بشكل مجاني أو شبه مجاني، المعجبين المخلصين من مهمتهم الصعبة في اكتشاف "التحف النادرة" والمخبأة عن أعين البقية، وأضعفت من جاذبية تبادل الأعمال الفنية خلف الأبواب المغلقة وغير الشرعية أحياناً، كما هو الحال مع تورنت، واستبدلتها بـ "الاستهلاك المتزايد" للمعجبين عبر الإنترنت الذين يلقون نظرة على حيثيات إنتاج فيلمهم المفضل متى ما شاؤوا، ويطلعون على شائعاته وأخباره بسهولة شديدة، من دون سعي منهم في بعض الحالات، خلافاً لنهج "المشاهدة الملتزمة" الذي ميز طقس مشاهدة أفلام "كالت" وتطلب كثيراً من الجهد والبحث وعمليات الفلترة.

يعزى غياب أفلام "كالت" المعاصرة إلى تغير مشهد الإنتاج بشكل واضح على مدار العقود الماضية أيضًا، خاصة مع تحول شركات الإنتاج والتوزيع إلى صناعة أفلام "جماهيرية"، مثل سلاسل "ماتركس" و"أفاتار" و"ديون" هائلة الإنتاج. يضع ذلك التوجه الاقتصادي الجديد "أفلام الأقلية" في منافسة غير متكافئة مع الإنتاجات الضخمة ذات الميزانيات الكبيرة، ما يمثل في حد ذاته تعدياً هوليوودياً آخر على السينما البديلة، يسعى إلى تدمير ثقافة فيلم "كالت" والاستحواذ عليه عبر إعادته إلى كنف عملاقة البث والإنتاج.

أما التحدي الأصعب الذي تواجهه أفلام "كالت" في وقتنا الحالي، فيكمن في قصر سعة الانتباه البشرية على نطاق عالمي، ووجود كم هائل من المنافسين على تلك المساحة المستمرة في الانكماش من صيحات ومؤثرين يصلون إلى مبتغاهم عن طريق الصدفة أحياناً، أو أنواع فنية أخرى تخلق تحالفات جديدة مع الوسائل التكنولوجية المتطورة، كما في حالة مسلسلات أنمي وألعاب الفيديو.

تتضاءل مقاومة أفلام "كالت" لظاهرة سرعة اشتعال وخبو المنتج بشكل ملحوظ، ما يعرقل مهمتها الأساسية في خلق مجتمعات تخييلية طويلة الأمد، أفرادها مخلصون للعمل الفني لمدة زمنية طويلة، ومأخوذون كلياً بما يقدمه من عبر وشخصيات، تدفع البعض إلى مشاهدة الفيلم مئات المرات، ومحاولة عيش تجارب مماثلة، لما يقدمه من أحداث أو انتحال إحدى شخصياته، كما يجري في بعض الحالات المتطرفة.

على الرغم من الشح الواضح في إنتاج أعمال "كالت" اليوم، إلا أن بعض التجارب السينمائية والتلفزيونية المعاصرة، مثل فيلم "ذا لايت هاوس" The Lighthouse، تثبت أنه ما زال من الممكن إنتاج أعمال حداثية مقاومة للزمن وتقلباته، قد لا ينجح مشاهدوها في التعرف عليها فوراً، كما في حالة The Big Lebowski، لكن ذلك لن يحول دون اعتبارها مصدر إلهام لأجيال قادمة من صانعي الأفلام ومحبيها.

المساهمون