روسيا وتركيا والوطن العربي

10 ديسمبر 2015
تأزم العلاقات الروسية التركية يضر بمصالحهما الاقتصادية (الأناضول)
+ الخط -
إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وحكومته، عقوبات اقتصادية ضد تركيا، وإطلاق التهديدات النارية ضدها بأنها ستندم على إسقاط طائرة "سوخوي 24" القاذفة يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يعني أن عملاً عسكرياً روسياً موجهاً ضد تركيا بات بعيد الاحتمال. ولكن، هنالك جهات تخشى أو تراهن (حسب مصالحها) على أن حرباً عالمية ثالثة صارت أقرب حصولاً من أي وقت مضى.

وقد فكّرت روسيا في قرار العقوبات الاقتصادية بعمق، واختارت منها ما لا يؤذي المصالح الروسية، بل ما يعكّر الحياة على الرئاسة التركية. ولذلك، أعادت العمل بالتأشيرات التي كان الأتراك الراغبون في دخول روسيا قد أعفوا منها. وكذلك، أوقفت استيراد الخضار والفواكه وبعض السلع الاستهلاكية.

ولو نظرنا في مكونات الميزان التجاري بين البلدين، فإن روسيا تصدر إلى تركيا حوالي 26 مليار دولار غازاً ونفطاً عبر منظومة الأنابيب الموجهة من روسيا إلى أوروبا، والتي تسمى "بلو ستريم". وفي المقابل، تصدّر تركيا ما قيمته حوالي 5 مليارات دولار إلى روسيا سلعاً استهلاكية، مثل الخضار والفواكه، والمنسوجات، والسلع المنزلية وغيرها.

اقرأ أيضاً: استبعاد إشعال الغاز أزمة بين تركيا وإيران
 
وفي ضوء الحديث عن الغاز والنفط، لم تذكر روسيا شيئاً عن إيقاف ضخ الغاز إلى تركيا.
ولكن الحكومة التركية بدأت تبحث عن بدائل في كل من أذربيجان وقطر، حيث زارهما على التوالي رئيس الوزراء والرئيس التركيان، أحمد داود أوغلو ورجب طيب أردوغان.

والواضح أن كلا المصدرين أكثر كلفة على تركيا التي تعاني من تراجع في سعر عملتها، وارتفاع في تكاليف المعيشة على مواطنيها. ولكن روسيا تعاني من الأمرين وأكثر. فهي شهدت عام 2014 تراجعاً في ناتجها المحلي الإجمالي بحوالي 4.5%، يتوقع هبوطه هذا العام إلى 3.5%، و1% في 2016، بينما تتمتع تركيا بمعدلات نمو سنوية تصل إلى 4% خلال العامين الأخيرين.

وما يزال غامضاً مصير أنبوب الغاز التركي (تركيش ستريم)، الذي اتفق البلدان على بنائه، رغم التصريحات المتبادلة حول تجميده، بعدما ألغت الحكومة البلغارية المؤقتة اتفاق بناء خط غاز عبر بلغاريا إلى أوروبا في أغسطس/آب 2014.

وكذلك ليس واضحاً إذا كانت الحكومة التركية ستلغي الاتفاق على بناء روسيا مفاعلا نوويا في تركيا لتوليد الكهرباء بكلفة 20 مليارا.

أما تركيا، فإنها تبحث حالياً عن أسواق جديدة لخضارها وفواكهها وسلعها الاستهلاكية الأخرى. وترى في جمهوريات وسط آسيا (أذربيجان، طاجيكستان، أوزبكستان، قرغيزيا وتترسكان) بديلاً قريباً، أما الجهة الأخرى فهي، بالطبع، الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج. وتقول المصادر التركية إن الدول العربية أبدت استعدادها في هذا الشأن لكي تساعد تركيا التي تقف ضد روسيا الحامية نظام الأسد في سورية، والمتعاونة مع إيران.

اقرأ أيضاً: تركيا تؤكد التزامها باتفاقية دولية لعبور السفن الروسية

وإذا حصل مثل هذا الأمر، وفتحت دول الخليج أسواقها أمام السلع التركية التي كانت تباع إلى روسيا، فإن أحد المتضررين من هذا التطور هو الأردن الذي أغلقت أمام صادراته السلعية الزراعية، خصوصاً أسواق سورية والعراق ولبنان، وصار يعتمد أكثر على أسواق الخليج، علماً أن إيصال البضائع التركية إلى دول الخليج سيكون مكلفاً، لأن نقله متاح مقابل مخاطر عبر العراق فالسعودية، أو عبر الموانئ التركية على البحر المتوسط إلى البحر الأحمر من خلال قناة السويس، ويمكن نقل البضائع جواً كذلك. وستضطر الحكومة التركية إلى دعم تصدير تلك السلع، على أساس أن هذا جزء من مجهودها الحربي في مواجهة روسيا.

تمكنت تركيا من سداد كل ديونها الخارجية في عام 2014، وخفضت عجزها التجاري بسبب هبوط أسعار النفط والغاز الطبيعي بأكثر من النصف خلال عام ونصف. ولذلك سوف تعيد القرارات العقابية الاقتصادية التي اتخذتها روسيا بحقها توسيع العجز التجاري التركي، بسبب ارتفاع كلفة استيراد النفط والغاز من مصادر بديلة (إذا قطعت روسيا إمداداتها)، وبسبب تراجع صادراتها، لكن الأثر في الحالتين ليس كبيراً.

ولكن العقوبة الأكبر هي انخفاض أعداد السياح القادمين من روسيا إلى تركيا، والذين يصل عددهم بين (15-20) مليون سائح، ينفقون ما يصل إلى قرابة 6 مليارات دولار سنوياً.
وإذا حصل هذا لفترة طويلة، ستجد تركيا صعوبة في التعويض عن هؤلاء، إلا بدعم قطاع السياحة. ولكن، إذا لم تستطع تركيا تعويض الصادرات إلى روسيا، والسياحة القادمة منها، فإن عشرات الآلاف من العاملين في قطاع السياحة والصناعات الاستهلاكية سوف يتضرّرون.

اقرأ أيضاً: شركات السياحة الروسية تأمل استئناف حركة الطيران مع مصر

وفي المقابل، سوف تعاني روسيا، هي الأخرى، من استيراد سلع بديلة، بكلفة أغلى، بدل السلع التركية، والمجالات المفتوحة أمامها هي دول شرق أوروبا الأعلى كلفة من تركيا. وكذلك، سيذهب السياح إلى شواطئ بلغاريا ورومانيا، وربما إلى دول الخليج، بكلف أعلى.

والمشكلة أن كلا البلدين كبير، ومعقد، وسياساته تأخذ أشكالاً ملتوية ومتداخلة. والمعضلة أن دولاً في الغرب وإسرائيل قد ترى في الخلاف القائم بينهما فرصة للتوتير، واتخاذ إجراءات أكثر عنفاً، فلو ألغت روسيا الخط التركي للغاز، وقابلتها تركيا بإلغاء اتفاق المفاعل النووي، وإذا بدأ الصراع بين الطرفين داخل سورية، وتدخلت روسيا في إثارة الأكراد، وتدخلت تركيا في إثارة مشكلات ضد روسيا، فإن تركيا قد تلجأ إلى تضييق حركة المرور على السفن والبوارج الروسية العابرة في كل من الدردنيل والبوسفور. وليس هنالك حدودٌ للتصعيد، لو أطلق عنان المكايدة والمقاهرة بينهما.

لا نريد أن نقول إن حلف الأطلسي ربما يتدخل لصالح تركيا، ولا أحد يريد أن يدفع روسيا إلى عمل عسكري، لا يدري أحد عواقبه.

أعتقد أن كلا الرئيسين في البلدين يجب أن يحولا دون احتمالات التصعيد، ويبدأ ذلك بتهذيب اللغة وتخفيف نبرتها. ومن التهديدات اللفظية ما تصبح، إن تكرّرت، ملزمة عملياً. وهذا ما لا يريده العرب في الوقت الحاضر. ويمكن للعرب المساهمة في إصلاح العلاقات بينهما، حتى تتحسّن فرص الاتفاق على حلول سلمية في كل من سورية والعراق.

اقرأ أيضاً: روسيا تخطو باتجاه الصيرفة الإسلامية
المساهمون