غسل القبور مهنة في غزة

19 سبتمبر 2018
يعملان هنا (محمد الحجار)
+ الخط -

لا تهدأ حركة زائري مقابر قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، لكن تنشط حركة أخرى هي لباحثين عن رزقهم في المقابر بالذات، إذ يتولون خدمة غسل القبور تحت الطلب.

باتت مهنة غسل القبور في غزة من المهن الجديدة التي أفرزها سوء الظروف المعيشية من أجل توفير لقمة العيش. يلاحظ زائرو المقابر عشرات من العمال في كلّ مقبرة، ممن يعرضون خدماتهم في الغسل والتنظيف والعناية بالقبر، كي يبدو مميزاً بين آلاف القبور التي تلتصق ببعضها البعض، خصوصاً في مقبرة البيرة وسط مدينة غزة التي تضم عشرات آلاف القبور وتعتبر الأكبر في القطاع المحاصر.

ينشط الشقيقان بسام (10 أعوام) وأحمد (11 عاماً) في العمل اليومي بتنظيف القبور بين فترتين صباحية من السابعة حتى الحادية عشرة صباحاً، ومسائية من الرابعة عصراً حتى السابعة والنصف مساء، أي قبل غروب الشمس. ويعودان بمحصلتهما اليومية إلى أسرتهما المكونة من ثمانية أفراد ووالد لديه إعاقة حركية تسبب بها حادث عمل قبل أربعة أعوام.

تعتمد أسرة الطفلين العاملين على مبلغ مخصص من وزارة التنمية الاجتماعية كلّ ثلاثة شهور، لكنّه لا يكفي حاجاتهم. يعمل الطفلان في مقبرة الشيخ في البيرة منذ عام ونصف، وبالرغم من خوفهما من المقبرة في البداية، إلاّ أنّهما اليوم يعتبران المهنة أفضل من بيع العلكة (اللبان) أو السكاكر على الطرقات.

يقول أحمد لـ"العربي الجديد": "كان بسام يشعر بالخوف لأننا نسمع قصصاً مخيفة عن القبر، لكن بعد فترة اعتدنا على الجو، وبتنا أكثر خبرة في التعامل مع الناس الحزانى الذين يأتون إلى القبور، فنقترب من قبر المرحوم ونترحم عليه، ونغسل القبر ونحصل على مبلغ مالي قليل ما بين شيكلين (0.55 دولاراً أميركياً) وخمسة (دولار وثلث). الناس يطلبون منا دائماً غسل القبر وعندما يزورون في بداية الشهر يقدمون لنا مبلغ 20 شيكلاً (5 دولارات ونصف) دفعة واحدة".

ينتظر الزائرين (محمد الحجار) 


في المقبرة الشرقية، شمال قطاع غزة، يرى جميع زائري القبور أبو محمد، شريف الحواجري (64 عاماً) وهو من سكان مخيم جباليا. يخرج من منزله مع شروق الشمس مشياً إلى المقبرة ويبدأ في تنظيف القبور من الأعشاب ورشها بالمياه. كان الحواجري عاملاً في مجال البناء في الداخل الفلسطيني يؤمن مدخولاً جيداً استطاع معه تعليم جميع أبنائه الخمسة وبناء منزله في المخيم. لكنّه منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 قلت فرصه، فعمل في القطاع لكن بأجرة قليلة، حتى بات عاطلاً من العمل منذ عام 2007 حتى العام 2015 عندما بدأ بمهنة القبور، هو عاطل من العمل، نتيجة الحصار الإسرائيلي المستمر وإغلاق عدد من المنشآت الصناعية الكبيرة المحلية.

يقول الحواجري لـ"العربي الجديد": "بدأت مهنة تنظيف القبور ورشها بالماء، بالظهور مجدداً نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة. بعد عام 2007 كان في المقبرة رجل أو اثنان في هذه المهنة، وباتوا اليوم بالعشرات، لكنّ الأطفال أكثر من يعملون في هذه المهنة بدافع من أسرهم، إذ يكسبون عطف الزائرين وينالون مالاً أكثر. خلال العام الجاري هناك شبان يقبلون على المهنة".

أما الشاب يحيى (29 عاماً) فيعمل في هذه المهنة في مقبرة بيت لاهيا شمال القطاع. كان بائعاً للخضار في سوق الشيخ رضوان وسط مدينة غزة، لكنه سرّح من عمله مع تاجر الخضار الذي يعمل لديه لقلة المتسوقين، فعمل في المقبرة منذ بداية العام الجاري، عن طريق الصدفة. يقول يحيى لـ"العربي الجديد": "صادفت شاباً كان في صفي المدرسي في مقبرة جباليا، فأخبرني أنّها مهنة مناسبة لظروفي. قررت أن أعمل في المقبرة فكان هناك كثيرون مثلي في كلّ المقابر. بتنا نوزع أنفسنا كي لا يعتدي أحدنا على منطقة الآخر هناك". يشير يحيى إلى أنّهم ينشطون في العمل خلال فترة الأعياد وشهر رمضان ويومي الخميس والجمعة نظراً للإقبال الكبير على زيارة القبور في تلك الفترات، وفي بعض الأحيان يحضر محسنون لتوزيع طعام جاهز عليهم.




من جهته، يشير مدير العلاقات العامة والإعلام بغرفة تجارة وصناعة غزة، ماهر الطباع، إلى أنّ ظروف الحصار الإسرائيلي أظهرت مهناً كثيرة صعبة وخطيرة مثل العمل في الأنفاق والعمل في تكسير الصخور وجمعها من البيوت المهدمة، لكنّها أودت بأرواح عدد منهم لخطورتها وضرر في بعضها، لذلك اتجه بعض الأطفال والكبار إلى مهن القبور. يقول: "الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي يمر بها قطاع غزة دفعت الأطفال والكبار إلى التسول في الشوارع، لكنّ الناس بفقرهم لا يعطون صدقة للمتسولين، إذ أصبحنا في مجتمع خسرت فيه المصانع والأعمال، وبات أصحاب رؤوس الأموال مفلسين فقراء، بل منهم من هو في السجن. كذلك، تزداد أرقام البطالة، إلى حدّ دفع إلى ابتكار مثل هذه المهن غير المعهودة".