غيتا هريهاران.. فلسطين عند كلّ زهرة برية

15 يوليو 2016
(غيتا هريهاران، تصوير: جوزيف مهلينغ)
+ الخط -

"رأيت فلسطين" ربما هي المقالة التاسعة الأبرز في كتاب الروائية والكاتبة والأكاديمية الهندية المقيمة في نيودلهي، غيتا هريهاران، والمعنون "يكاد يكون وطناً: مدن وأمكنة أخرى" (2016).

الكتاب، المكوّن من عشر مقالات، هو رحلات حيوية مترابطة تهيمن عليها موضوعة كيف ينظر الناس إلى الوطن والحرية وغيابهما. وتطرح الكاتبة أسئلة جوهرية معاصرة: ما الذي تشترك فيه مدينة تنتمي إلى القرون الوسطى في جنوبي الهند مع واشنطن دي. سي؟ وكيف يتصوّر مواطنو كشمير الحرية التي يتوقون إليها؟ ولمن تنتمي دلهي ذات الصروح العظيمة والأحياء الشعبية المختبئة عملياً؟ وما الذي يصنع من مدينة أو أي مكان وطناً؟ وكيف يرى الفلسطينيون وطنهم وانتماءهم؟

تجيب الكاتبة على هذه الأسئلة، وتأخذ القراء إلى رحلات مفتوحة عبر المكان والزمان، مستكشفةً التاريخ والمشاهد الحاضرة والناس، مستلهمةً أسلوب الإيطالي إيتالو كالفينو المتين عن الرحلات والمدن، فتركّب نصاً يجمع بين الذاكرة والنقد الثقافي والتاريخ.

بهذا الأسلوب، تنحت قصصاً فاتنة متعدّدة الطبقات عن الأمكنة في مختلف أنحاء العالم، من دلهي إلى مومباي، ومن كشمير إلى فلسطين والجزائر وقرطبة القرن الحادي عشر، ومن طوكيو إلى نيويورك وواشنطن.

وفي سرد حياة هذه الأمكنة المهمّشة والمغلوبة على أمرها، تسبر أعماق الحملات الاستعمارية وبناء الأمم والفقر والحروب والكفاح من أجل حقوق الإنسان والبقاء يوماً بعد يوم، بحساسية إنسانية شاملة. ولا يأخذنا هذا السرد، كما يقول الكاتب جي. م. كوتزي عن هذا الكتاب، إلى رحلات مضيئة عبر مدن غنية بالتاريخ فقط، بل يمنح صوتاً لسكّان مدن في مختلف أنحاء العالم يحاولون العيش بكرامة إنسانية.

هنا في رؤيتها لفلسطين، تتجاوز الكاتبة اللحظة الراهنة إلى بداية الاهتمام الاستعماري الذي هيّأ أرضية احتلالها، وتكشف عن وعي قلّ نظيره بترابط أشغال المخيّلة الغربية ومواجهتها لفلسطين تحت وطأة معتقدات ورغبات رسم خريطة توراتية للمكان، مع تصوير -بوسائل أدبية وفنية- للأرض كمساحة خالية من السكّان، مهجورة وخربة، وتراكب كل هذا مع تأهّب القوى الغربية للتدخّل وهي تحدق بالطرق التجارية الكبرى إلى الهند. واكتسبت فلسطين أهمية حيوية مع اكتمال حفر قناة السويس.


نصوص وتقارير مضلّلة

ترجع الكاتبة إلى نصوص وتقارير مضلّلة صدرت عن قناصل دول غربية، وتضمّنتها مقالات عتاة الصهاينة، تقرّر (بكل صلافة) أن فلسطين منذ القرن السابع الميلادي وحتى القرن التاسع عشر كانت أرضاً خربة تحوّلت إلى صحراء، ولم يكن فيها ما يكفي من السكّان لحراثة أرضها.

وأمام هذا الشريط الذي بدأ بتخيّل فلسطين بلا سكان في كتابات الرحّالة تحت ثقل المعتقدات التوراتية، وصولاً إلى القول بأنه "لا وجود للفلسطينيين"، تتساءل الكاتبة بصوت فلسطيني: "ماذا يشبه أن يُقال إن لا وجود لك ولا لأسرتك، أو أن ما كان وطناً في ذاكرة الناس الحية لم يكن بالفعل وطنك على الإطلاق؟".

تضيف: "يبدو أن دولة "إسرائيل" لم توجد إلّا لإقامة وقائع على الأرض ثم عرضها وإبرازها". واتّضح هذا كما تقول منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه الكاتبة إلى فلسطين واتخذت طريقها إلى رام الله.

وطيلة الأيام اللاحقة، ظلّت تسمع عن المزيد من هذه الوقائع، في نابلس والقدس وبيت لحم والخليل وفي القرى والمدن، وتراها تعشّش في منحنيات التلال. هذه الوقائع هي ذاتها التي يصفها استطلاع للجنة بتسبرغ التضامنية مع فلسطين عنوانه "رؤية فلسطين خلال المعمار الاستعماري" بأنها "مستعمرات لا تنتمي إلى المشهد من حولها، بل هي معادية له، تمزّق ملامحه بوحشية. ويكشف موقعها على التلال مثل قلاع الصليبيين عن رغبتها في ألّا تعيش ضمن المشهد بل تعلوه وتسيطر عليه".

هذه المستعمرات المقامة في مختلف أرجاء فلسطين من النهر إلى البحر تفتقر، كما هو واضح من مشاهدات "غيتا" ولجنة بتسبرغ، إلى ملمس الحضور التاريخي الصريح في المجتمع الفلسطيني.


مستعمرات تستنسخ نفسها

تقول الكاتبة عن هذه "الوقائع" إنها تقيم فوق رؤوس التلال، تتسيّد على ما تحتها، وكان من السهل تبيّنها، لأنها من وحدات جاهزة الصنع متماثلة، وهناك الكثير منها، تراها من أي نافذة نظرت أو طريق اتخذت أو تل تسلّقت أو واد هبطت إليه، بحيث أشعرتها هذه المستعمرات كما لو أنها داخل مصفوفة. مستعمرات تستنسخ نفسها، وتلتهم الأرض قطعة بعد قطعة. كانت تخترق التلال وتخرج منها، وتعزل القرى القائمة هناك منذ أزمان سحيقة. سرقت ينابيع المياه، واقتلعت أشجار الزيتون، وهدمت البيوت؛ دمّرت حياة الناس الذين هناك، وعملهم وحياتهم الاجتماعية وذكرياتهم وأملهم بالمستقبل.

ولا يفوت غيتا هريهاران أن تشير إلى الهيمنة التي ما زال يمارسها المنظور الاستعماري حين تكتب: "ربما تكون الهند بلداً مستقلاً منذ نصف قرن تقريباً، ولكن ماضي بلدنا كمستعمرة ما زال يشكّل منظوراتنا، وبخاصة حين ننظر إلى مختلف أرجاء العالم؛ إن ما تدعى النظرة الغربية ذات تأثير عميق على النظرة الهندية، وحقيقة أننا نفكر بفلسطين كبلد يقع في غرب آسيا تؤكد بحد ذاتها على أننا ننظر إلى أماكن مختلفة من زاوية ما قال لنا الآخرون عنها".

رحلة هذه الروائية الهندية إلى فلسطين ربما تحفز كتّاباً وشعراء وباحثين فلسطينيين على القيام برحلات في جغرافية وطنهم وأهله، وربما تكون إشادتها بالحديث مع الكاتب الفلسطيني رجا شحادة، الذي سجل تجواله على القدمين في عدة مؤلفات (يكتب بالإنكليزية ومن أبرز كتبه فيها "سرحات فلسطينية") حافزاً إضافياً وتنبيهاً إلى أن الأرض ليست شيئاً مجرّداً، بل يجب أن تكون الشغل الشاغل للفلسطيني، ليتعرّف على كلّ زهرة برية وعشبة، وكل نبع وحجر، في تلال ووديان فلسطين.


مقاطعة "إسرائيل" في الهند

وأخيراً تجدر الإشارة إلى غيتا هريهاران، إلى جانب كونها روائية وأكاديمية، هي أيضاً ناشطة حقوقية في بلادها وتنشط منذ سنوات في مجال المقاطعة الثقافية لـ "إسرائيل" في الهند التي تشهد تطبيعاً على المستوى الرسمي بدأ في الستعينيات بعد توقيع ما يسمى بـ "اتفاق أوسلو".

ولدت هريهاران في مدينة قويمبيتوري في الهند، وشبت في بومبي ومانيلا، وأكملت دراستها في هاتين المدينتين، وتخصصت في الأدب الإنكليزي وعلم النفس في جامعة بومبي، ثم حصلت على درجة ماجستير في فنون الاتصال من جامعة فيرفيلد في كونيكتكت الأميركية.
تنقلت غيتا بين عدد من الوظائف، ككاتبة وباحثة، ثم كمحررة محترفة مستقلة في عدد من المعاهد الأكاديمية والمؤسسات، وبدأت بكتابة الروايات في عام 1992، وتستقر حالياً في نيودلهي.

المساهمون