غادروا المدرسة باكراً، ولم يتعلّموا الموسيقى في المعاهد. معظمهم عاش طفولة قاسية في أحياء الصفيح، وبعضهم كان يُرَشّ بمبيدات الحشرات أيام الاحتلال الفرنسي، لكنهم أسسوا أشهر فرقة غنائية في تاريخ المغرب: "ناس الغيوان".
كانوا خمسة، ثلاثة منهم غادروا هذا العالم: بوجميع أحكور، العربي باطما، عبد الرحمن باكو. وبقي علال يعلى وعمر السيد، شاهدين على تاريخ من الفوضى والجنون والموسيقى والأحلام التي تساقطت تباعاً.
هذا العام، تمرّ الذكرى الأربعون لرحيل بوجميع (26 تشرين الأول/ أكتوبر 1974)، الأب الروحي لـ"ناس الغيوان"، وتمرّ في المقابل سبعون سنة على ميلاده (1944)؛ هو الذي غادر الحياة شاباً في عامه الثلاثين، تاركاً بصمته الخاصة في مسار الفرقة. صديقه عمر السيد قال عنه: "كان فوق الخشبة إنساناً آخر، يستشعر بقوة الأغاني التي يؤديها"، ووصفه بالحركي الذي يتمتع بشخصية قوية، وبالفنان الذي يغنّي بأعلى درجة من الصدق. وما زال البعض يرى أن بوجميع الجريء لم يمت بشكل طبيعي، بل إن شقيق الراحل أشار في العديد من الحوارات الصحافية إلى ظروف وفاته الغامضة، مقدّماً في هذا السياق بعض التفاصيل التي تشكك في رواية موته من جرّاء قرحة في المعدة ثلاثة أيام بعد عودته من سهرة أحيتها المجموعة شمال المغرب، بتنظيم من طلبة اليسار.
حين رحل رائد "ناس الغيوان"، قرر العربي باطما التوقف عن الغناء، لكن أصدقاءه أقنعوه بمواصلة ما بدؤوه معاً، فعاد، لكن كان يحب أن يبقى هناك مايكروفون آخر على الخشبة إكراما لروح صديقه الراحل، الذي جمعته به علاقة خاصة قبل الغناء، ويتعلق الأمر بالمسرح. فبوجميع بدأ منذ 1963 تأليف نصوص مسرحية، وتأدية أدوار مختلفة في فرقة الطيب الصدّيقي. وفي إحدى جولات الفرقة في باريس، أسرّ إلى باطما بأنه يفكر في شيء ما ينقل إلى الناس ما يعتمل داخله، لكن بتأثير أكبر من تأثير المسرح، الذي سيغادرانه بعدما صرّح الصدّيقي للصحافة الفرنسية بأن الممثلين في فرقتهم ما هم إلا فئران تجارب.
كانت الفكرة التي توصّلا إليها، وسيناقشها بوجميع أيضاً مع الكاتب الراحل محمد زفزاف، هي الغناء بروح جديدة ومختلفة، فتأسست الفرقة مطلع السبعينيات تحت اسم "الدراويش الجدد". لكن هذا الاسم لم يعمّر طويلاً، إذ سرعان ما عثر بوجميع على الاسم الجديد داخل الفن التراثي الخاص بصحراء المغرب، حيث تعني "ناس الغيوان" أهل الترحال والتجوال. وسيضيف عمر السيد على معناها: "أهل المحبة والخير والسلام".
حين غنّت "ناس الغيوان" في بداية السبعينيات، وتحديداً خلال محاولات الانقلاب على الحسن الثاني، "فين غادي بي أخويا؟" و"علاّم القبيلة خرّف"، بدا للناس أنهم أمام فرقة سياسية. كان ذلك في مرحلة يسميها المغاربة "سنوات الرصاص". أغاني المجموعة كانت فعلاً مشحونة بمفردات التمرّد والاحتجاج، لكنها لم تكن وحدها توحي بهذه اللمسة الثورية، بل أيضاً الإيقاع الفريد للفرقة وشكل ظهورها على الخشبة.
لكن "ناس الغيوان"، وعلى مدار عقود، لم تقف عند حدود السياسة، بل تغنّت بالحياة والوجدان والتراث والأحلام والهموم الصغيرة للناس. سيصرّح عمر السيد لاحقاً أن الفرقة لم تكن ملتزمة بالسياسة بقدر ما كانت ملتزمة بالفن، وأن تأويلات المثقفين كلمات أغانيهم البسيطة غالباً ما كانت تجلب لهم المتاعب.
ذاع صيت "ناس الغيوان" في السبعينيات والثمانينيات، وانتشرت أغانيهم بسرعة غريبة، رغم الحصار الإعلامي الذي واجهوه في البداية. وجدت أعمالهم صداها لدى شرائح مختلفة من المجتمع: مال اليساريون إلى الأغاني التي كانت تنتقد الظلم والتسلّط والفوارق الطبقية؛ المتصوّفون والمتديّنون أحبّوا المدائح النبوية والمكاشفات الروحية؛ الشباب كانوا أكثر ميلاً إلى الأغاني التي تبدأ وتنتهي بطعم الثورة والتمرّد على الأنساق التقليدية الجامدة؛ القوميون تفاعلوا مع الأغاني التي تستنهض همّة الإنسان العربي وتدعو إلى الوحدة، وتذكّر بالقضية الفلسطينية التي أفردت لها المجموعة قطعاً عديدة، مثل "صبرا وشاتيلا"، "دومي يا انتفاضة دومي"، "الشمس الطالعة"، "القَسم"، وغيرها.
يضاف إلى ذلك كمٌّ هائل من الأغاني التي تعبّر عن غربة الكائن داخل عالم كان الجميع يحلم بأنه سيتغير، مثل "الماضي فات"، "ما يدوم حال"، "هاجت الأحزان"، "الهموم حرفتي"...
بعد رحيل العربي باطما سنة 1997، بدأ بريق "ناس الغيوان" يخفت تدريجياً، وزاد هذا الخفوت حين انفصل عبد الرحمن باكو، صاحب الصرخة الشهيرة في أغنية "لله خذوني"، عن المجموعة وعاد إلى فن الـ"كَناوة" الذي جاء منه مطلع السبعينيات. وفي السنوات الأخيرة، تغيّرت الملامح العامة للفن في المغرب وفي العالم العربي عموماً، ولم تعد لفكرة الفرق الغنائية على شاكلة "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" و"المشاهب" الأهمية ذاتها والتأثير السابق نفسه. وصار الأعضاء الجدد للفرقة التي لم يتبقّ من روادها سوى عمر السيد يكررون الأغاني القديمة في معظم حفلاتهم.
بعد تاريخ من الغناء الثوري والروحي والوجداني، والتعبير الفني عن هموم الناس وآمالهم، عن المعاني العميقة والأحلام الكبيرة، صارت "ناس الغيوان" في شكلها الحالي مجرد ذكرى عن الفرقة القديمة، تلك التي كانت تشعل الساحات والمسارح.. والقلوب.