"اكتشافات نينوى وبابل": علم الآشوريات وما وراءه

26 مايو 2019
(ثور مجنّح في متحف عراقي بعد استعادته، تصوير:صباح عرار)
+ الخط -

أدّى الرحّالة وعلماء الآثار الأوروبيون أدواراً استخباراتية وسياسية ودبلوماسية في المنطقة العربية، منذ نهايات القرن الثامن عشر، وكان يتمّ إرسال موظّفين أو عسكريين أو رجال أعمال في منح دراسية تُنفق عليها جامعات ومعاهد ومتاحف، في تزاوج بين مهامّهم الرسمية وأعمالهم البحثية.

من أبرز هؤلاء كان المستشرق وعالم المسماريات البريطاني أوستن هنري لايارد (1817 - 1894) الذي عمل في سفارة بلاده في إسطنبول، قبل أن يقود بعثة تنقيب عن الآثار بتكليف من "مجلس أمناء المتحف البريطاني" بالقرب من مدينة الموصل وتنقّل في مواقع مختلفة في العراق، كانت نتيجتها أن ألّف العديد من الكتب التي تتنوّع بين الأركيولوجيا والنقوش وتاريخ الفن وأدب الرحلات.

قبل أيام، صدرت ترجمة كتابه "اكتشافات نينوى وبابل" عن "دار المأمون" في بغداد، ونقله إلى العربية محمد حسن علاوي، ويتألف العمل من ستة وعشرين فصلاً تعرض عمليات التنقيب واكتشاف آثار مهمة من الحضارة الآشورية، كما يضمّ عشرات الرسوم والخرائط والمخططات واللوحات التي تصوّر بعض اللقى في نينوى وبابل وبغداد ونفر (شرقي مدينة الديوانية).

وصل لايارد العراق عام 1945، في سياق التنافس مع الفرنسيين الذين باشروا التنقيب في الشرق السوري قبل سنتين من ذلك، فبدأ مسحاً في منطقة تل نمرود لتتوالى اكتشافاته، ومنها الألواح التي تسجّل حروب آشور ناصريال الثاني (حكم بين 883 و854 ق. م)، وفي قلعة الشرقاط التي يعود تأسيسها إلى أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة عام، وتل قوينجق.

اكتشف لايارد الثيران المجنحة التي تمّ نقلها (سرقتها) إلى لندن تباعاً، والتي كتب عنها عام 1853: "كان وراءها أشكال ضخمة ذات أجنحة بنفس الارتفاع، وكانت ذات وجوه كاملة ونقوشها عالية وواضحة. وكان تصميم الأطراف والعضلات ينمّ عن معرفة بالفن أكثر من أي تمثال آخر رأيته في هذه الفترة".

يشير الكتاب إلى اكتشاف لايارد لمكتبة أشور بانيبال في تل القصر الرئيس بالصدفة في مدينة نينوى، بمساعدة العراقي الآشوري هرمز رسّام، التي احتوت على ما يقرب من خمسة وعشرين ألف لوح صلصالي مكتوب بالخط المسماري الآشوري تمثّل حقولاً معرفية متعدّدة، كالطبّ والفلك وتقنيات الريّ والهندسة وغيرها.

من بين هذه الألواح، عثر صاحب كتاب "نقوش في الحرف المسماري" على "ملحمة جلجامش" عام 1853، وفق الكتاب، التي كُتبت بخط مسماري باللغة الأكادية، وشكّل اكتشافها محطة مفصلية في علم الآشوريات. فكما قاد الكشف عن حجر رشيد إلى فك طلاسم اللغة الهيروغليفية، فإن ألواح جلجامش أدّت إلى معرفة اللغة المسمارية، على يد العالم البريطاني جورج سميث عام 1972.

يتناول لايارد أيضاً عملياته في المدن الآشورية القديمة التي شرع في التنقيب فيها، والأخطار التي واجهها هو وعمّاله وهم يكشفون النقاب عن بعض أهمّ الكنوز المكتشفة وعلاقاته مع القبائل في بادية الموصل، وقرب المواقع الآثارية في عفك جنوبي العراق.

يكشف الكتاب تسلسل الاكتشافات، وما ترّتب عنها من نتائج علمية تبيّن للقارئ تفاصيل السنوات الممتدّة حتى خمسينيات القرن التاسع عشر، التي وضعت لبنات المعرفة الأولى حول تاريخ العراق القديم، وتصحيح الكثير من القناعات خلال العقود التالية، والتي وضعت بابل بموازاة أثينا، بدءاً من العمارة والفنون وليس انتهاءً بالفلسفة والتطور العلمي في تلك العصور.

إلى جانب ذلك قام لايارد بمهامّ أخرى لصالح حكومته، التي أوكلت إليه وضع مشروع حدود تكون منطقة شط العرب فيه تابعة للدولة العثمانية على أن يعطي نهر بهمنشير إلى إيران، ضمن مخطّطات ومشروعات عديدة حول تلك المنطقة التي تسبّب ترسيمها الحدودي بنزاعات بين العراق وإيران، إضافة إلى تكليفه بالتواصل مع الأيزيديين والكلدان. بالطباع كتاب كهذا، على أهمية قراءته، يحتاج إلى مراجعة نقدية تفكّك عمليات النهب التي تعرض لها تراث العراق والمنطقة العربية على يد بعثات الآثار الغربية.

المساهمون