الشاعر"الكتالاني" أَنريك كازاسَس.. السلطة تقصي الشعر من الفضاء العام

14 يوليو 2015
الشاعر الكتالاني أَنريك كازاسَس (Getty)
+ الخط -
في حديقة جوان ميرو القريبة من ساحة إسبانيا، كان موعدنا. جاء الشاعر بشعره الأبيض الطويل ولباسه المتواضع، والأهم، بذلك الشعور الذي يمنحك إياه منذ اللحظة الأولى: الصدق مع الذات والناس والعالم. العفوية الصافية والبساطة التي هي نقيض لأيّ نزعة استعراض. أنريك كازاسَس اليوم، بسنواته الخمس والخمسين، وكتبه الشعرية البالغة عشرين كتاباً، هو أحد كبار الشعر الكتالاني.  إنها واحدة من المرات القليلة التي يوافق فيها على إجراء حوار، والفضل يعود إلى "السفر إلى ضفة أُخرى هي العربية"، كما يقول.

* بدأت كتابة الشعر مبكّراً، ما الذي دفعك إلى ذلك؟

عندما كنت مراهقاً، سكنني إحساسان مهمّان جداً: بداية الحب، والرغبة باستمرار هذه البداية، بما تُفعمني به من عطايا المتعة. هذه الرغبة الطفولية كانت تجعلني أحسّ بأن العالمَ وكلَّ ما فيه جميل. وقد شعرت عندما بدأت أكبر، أن كلّ شيء يختفي، كما طيف. وهذه الرغبة في الاستمرار هي التي دفعتني للكتابة. في الوقت نفسه، أيضاً أدّى حبي للغة الكتالانية بوصفها لعبة، وليس لأنها لغة كتالانية أو غيرها، دورًا في ذلك. ففي فترة الطفولة وأوّل المراهقة تحت حكم فرانكو، كنت أحسّ أن الكتالانية هي فضاء حرّ، إذ إنها لم تكن حينذاك لغة كتابات رسمية لدى السلطة، كما هي عليه الآن.

* اللعب باللغة، هذا شعور يأتي للشاعر عادة، بعد أن يكون قد قطع شوطاً، لكنّه عندك جاء مبكراً. أرجو إضاءة هذه المنطقة أكثر؟

ثمة ميزة لديّ؛ في العائلة كان الأب والأم يتكلمان بلهجتين مختلفتين. بإمكانك أن تقول كما لو أن أمي من الجزائر وأبي من تونس، وكنت أنا في ذلك الوقت أُقارن بين اللهجتيْن. وواقع ذلك الزمن، أنّ الناس كانت تتكلم الكتالانية في البيت، وليس في الفضاء العمومي. ولذلك أنا فكّرت: ثمة شيء ملفت للنظر، ومن هنا جاء جذرُ اللعب باللغة.
أتذكّر حين كنت صغيرًا، أنهم حكوا لي قصة علي بابا، ولما سمعت تلك الجُملة: "افتح يا سمسم" بترجمتها الكتالانية (أوبرت سيسام)، ظلّلت سنين طويلة أفكّر: لماذا هذه الجملة التي ينبغي أن تكون سحرية ليس لها إيقاع معين كجملة سحرية؟ إلى أن قُيّض لي أن أرى أطفالاً مغاربة، فسألتهم كيف تقولون الجملة؟ وعندما سمعتها منهم أحسست بسحريّتها. إني منذ صغري أتأمّل جوانب اللغة وغوامضها ومستوياتها وعمّن تصدر. مثلاً، من فترة قرأت لعمر الخيام وشيخ الجبل الذي أعطى اسماً للحشاشين، أقصد حسن الصباح. لقد وصلنا من الخيام هذا الشعر العظيم، وأمّا من شيخ الجبل ذي السلطة، فلم يصلنا شيء.
وهذا بالنسبة لي بمثابة مثال على أن الشعر يظلّ ويبقى عبر القرون، بينما لا يبقى شيء من رجال السلطة. وباختصار: ما يبقى في العالم والتاريخ، هو ما يضمن استمرار الحياة: الحبّ. الحبّ وليس الإرهاب ولا العنف القادمان دوماً من السلطة.

* الآن، كم سنة مضت عليك وأنت تكتب الشعر؟

من وقت طلوع الشَّعَر في ذقني.

* هل من جدوى للشعر؟

الشعر بالنسبة لي مثل التنفّس. أنت عن طريق شعرك، تُعطى حياة، ومن ثمّ تُعطيها لمن حولك. وأبداً هو الشعر هكذا منذ القصيدة الأولى المجهولة. إن الهواء الذي نستنشقه، مركّب من موادّ عديدة، والشعر مثل الهواء تمامًا مركبّ كذلك من مواد عديدة.

* هل تجد أن للشاعر دورًا يؤديّه؟

أن نتحدّث عن الشعر كما لو كان وظيفة، أمرٌ صعب. لأن الشعر في الحقيقة يجمع في الوقت نفسه، البحث عن الحقيقة من جهة وجانب الأحاسيس والعواطف من جهة أخرى. موضوع آخر أو وظيفة للشعر: إنها تُراكِم الألم الذي خلقنا نحن كبشر.

* مع إيمانك بقدرةٍ ما للشعر، ألا ينتابك أحياناً الإحساس بخواء هذا العالم، وعندئذ تشعر بفقدان الشعر للكثير من سحره؟

أتخيّل أن العقل هو ذبابة تحاول أن تضرب الزجاج لتعبره، بينما الشعر يحاول تجاوز هذا الزجاج. صحيح أن الشعر لم يُقدّر تاريخياً ولن يقدر على فعل أي عمل واضح من شأنه التغيير، لكنه يبقى ـ وتلك ميزته ـ هو وحده القادر على التعبير عن خلجاتنا وأحاسيسنا. إن له القدرة، بعكس السلطة، على تجاوز هذا الزجاج. وبالمناسبة، صورة الذبابة التي تحاول تجاوز الزجاج ترافقني منذ البداية.

* كلامك يفتح مسرباً للقول إن بعض الشعر قادر على إضاءة عتمة الوجود وعتمة اللغة معاً؟

أحياناً الشعرُ يخيف، لأنه يجعلك ترى عتمة الوجود، سواءٌ من طريق الكتابة أم من طريق القراءة. لكن العتمة ليست مطلقة هنا، بل نسبية. بمعنى، العتمة: أقلّ ضوءًا. بينما الضوء أو خيطه موجودان دائماً. بهذا المنطق نفسه أفكّر في الحياة والموت. فالكون مثل الحيوان، كائن حيّ. ومع أن الموت حدث فرديّ، أي أنا أموت ومادة جسمي تموت، إلا أنها تذهب للأشياء المحيطة بها، ثمّ تندمج مع الطبيعة. الشيء الخالد إذن، هو المادة وليس الروح. المادة والجينات تتحوّل إلى الطبيعة، وهذا عكس ما يقوله الدين. العلْم والشعر يعاكسان الدين.
واسمح لي بالاستطراد هنا: هناك كاتب تونسي لا أتذكّر اسمه يعرف جيداً الثقافة الأوروبية المسيحية، وقد كانت فكرته أن الشعراء والخوارنة كانوا في العصور الوسطى يعملون ضدّ بعضهم بعضاً. بمعنى لو جاز التعبير، كما لو أن الشاعر كان يسحب من الخوري جمهورَه، على نحو يبدو فيه الشاعر والخوري عدوين. وحتّى هنا في أوروبا، فإننا نحتاج إلى الدور نفسه. ففي الوقت الحالي، وبواسطة الميديا ووسائل الإعلام على أنواعها، فإن من يملك المال يكون صوته أكبر مساحةً وأعلى ضجيجاً. بينما في القديم لم تكن هذه الهيمنة على الكلام. وسأمثّل لك: ففي الفضاء العام، في موقف الباص مثلاً، هناك إعلانات. وأنت لا تستطيع وضع مقطع من قصيدة بدلًا من الإعلان. فالسلطة هي من يسيطر على الفضاء أو الحيّز العام، ولهذا لن تجد شعراً.

* هذا يُحيلني إلى سؤال حول رؤيتك للعولمة ومدى تأثيرها على الشعر بالبداهة؟

لا أعرف بالضبط ماذا سيكون تأثير العولمة على الشعر خاصّة وعلى الفنون عامة. بيد أني أرى الشعر يتحرّك بطرق مختلفة. بمعنى هناك شيء إيجابي في العولمة، فالشعر يتحرّك بمرونة وديناميكية لم تكونا متاحتيْن سابقاً. فمن جانب، شبكة الإنترنت مفتوحة وليست حكراً على أحد. وهي حرّة تماماً، وهذا إيجابي في رأيي، لأنك تقدر أن تقرأ وتسمع وترى أشياء كانت غير موجودة سابقًا. ومن جانب آخر، فإن هذه الشبكة تعرف كلّ شيء عنك. إذن، لقد رجَع الدكتاتور، ولا توجد ضمانات أصلًا لعدم رجوعه، وهو سيجد ملفّك كاملاً وجاهزاً. وهذا بالطبع كئيب جداً ومحبط.

* تكتب بالكتالانية، بـ "لغة صغيرة" لو جاز التعبير، فيما تستطيع الكتابة بثاني أكبر لغة انتشاراً في العالم. أقصد الإسبانية، لماذا؟

ثمة قبيلة صغيرة في وسط أميركا اللاتينية لديها مهمّة مقدسة في الحياة: أن تفعل قُصاراها كي يتحسّن دورانُ الكواكب في الكون. اللغة صغيرة كعدد متكلّمين، ولكن من اللحظة التي أنطق بها كلمة من هذه اللغة، التي هي في النهاية فكرة، أو حركة في الهواء اللا محدود، فلا أعرف إلى أين ستصل، وكم سيبلغ تأثيرها. في الطبيعة نرى التنوّع، آلاف أنواع النبات، وفي اللغات نرى الشيء ذاته، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن اللغة الكتالانية هي لغة مهدي وطفولتي، وتلك هي اللغة الفضلى للشعر. إنني لا أُنكر هذا، وكم أحسست بعشق كبير للغة أمّي وجيراني والناس البسطاء غير المتعلّمين الذين يستطيعون التعبير عن دواخلهم بشكل جميل جداً.

* هذا يدلّ على أمرين: أولًا الوفاء للغتك الأم، وثانيًا الزهد في الشهرة التي من الممكن أن تأتي بها لغة كبرى أو واسعة الانتشار.

أنا أُفضّل أن يترجمني مترجم ممتاز للإسبانية. إني أحبّ كلّ الآداب، وأنا قريبٌ جدًا من آداب اللغتين الإسبانية والفرنسية اللتين أُتقنهما، لكنني أعيش وأتنفّس باللغة الكتالانية، فاللغة تقليد، اللغة حياة.

* أنت واحد من أنشط شعراء بلدك في التواصل مع قرّائك وجمهورك. كيف تنظر إلى القراءات الشعرية؟ هل تراها ضرورية خصوصاً، مع طغيان الصورة في عصرنا؟

أرى هذه الفعاليّات ضرورية، بمعنى أن يصل الشعر إلى الناس بشكل كامل، وأن يُقرأ بصوت عال. ذلك لأن معظم الذاهبين إلى القراءات الشعرية، لا يشترون الكتب. ثم إن الشعر يأخذ كلّ أبعاده وتفاصيله حينما يُنطق ويُقرأ وتصل ذبذباته للجمهور.

* هل الكتابة مثل ساعي البريد الذي يحمل رسائل للمجتمع أو العالم؟

الكتابة ضوءٌ يجعل الناس ترى الواقع والعالم، أكثر من كونها رسالة. أحدٌ ما قال إنّ الكتابة ليست اللمبة أو المصباح ولكنها ضوء اللمبة. والموسيقى والرسم أيضاً لهما الدور نفسه، مع الإقرار بأن للكتابة خصوصية، كونها تشتغل على وسيط غير مادي هو اللغة. أضف إلى ذلك، أنّ اللغة لم يخترعها أحد. اللغة في الوقت ذاته هي شيء طبيعي وصناعي. لم يخترعها أحد وفي اللحظة ذاتها اخترعها الإنسان.

* كيف تُقيّم الشعر الكتالاني بعد فترة حكم فرانكو؟

بعد فترة حكم فرانكو ها أنا ذا! طبعاً، التقييم صعبٌ من واحد مثلي، هو فرد بين هؤلاء الذين تسأل عنهم. فلأنني ضمن المشهد، يصعب أن أُفسّر لك بشكل جليّ ماذا يفعل الآخرون. فلو تخيلنا كمثل: صفّان من الجنود في ساحة المعركة يطلقان النار على بعضهما، وأنا واحد منهم، فأنا أعرف ماذا أفعل، لكنني لا أعرف ماذا يفعل الجندي الواقف بجانبي. الناس تمشي مع بعض في الاتجاه نفسه، إلا أن كلّ واحد منهم، يمشي بطريقته هو. ولذا لا يمكن لك تقييم الراهن والمعاصر وأنت داخله وفي خضمّهِ. مع ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أن الشعراء الذين كتبوا باللغة الكتالانية زمنَ فرانكو، أصبحوا الآن مثل الأبطال.
حالياً يبدو كلّ شيء سهلاً. ولكن بالنسبة لي أُعوّل على البطولة ذاتها قديماً وحديثاً، لأنها تكتب ضدّ السلطة وتمشي في الاتجاه المعاكس.

* ما هي المواضيع أو "الثيمات" التي تحرّضك على الكتابة وتحفزك؟

الحياة، والحب، والجمال البشريّ، وحُسن الطبيعة. والكتابة عن "عدو" كلّ هذه الأشياء.

* أنت على علاقات جيدة مع الشعراء الشباب، هل اختلفت همومهم عن هموم جيلك؟

الجوهر عينهُ. تتغيّر أحياناً زاوية النظر أو طرائق التعبير. ومع ذلك ثمة فروق هائلة بين الشباب أنفسهم. مثلاً، تجد شعراء يعبّرون عن مشهد طبيعيّ على نحو دقيق وفاتن، وفي الوقت ذاته، تجد آخرين يسخرون من الوضع الراهن. أحسّ أن بين الشعراء الشباب أصوات غاية في الأهمية. بمعنى، ثمّة نكهة ومناطق لدى بعضهم، جيلي أنا لم يطرُقها أو يتطرّق إليها. بالإضافة إلى هذا، صعبٌ الكلام عن هذا الجيل، فبعضهم لديه خلفية عن فن الغرافيتي، وغيرهم عنده خلفية من كتب قديمة كأن يهتم بالبحث عن لغة الفلاحين مثلاً. لكن بصورة عامّة، فإن هذا الجيل لديه حرية أكبر بكثير ممن سبقوه. لأن الدين فقد أهميته وحضوره. ولم يعد أحد يصدّق الأكاذيب الكبيرة القادمة من بوق السلطة. وهذا شيء خاص في هذا الوقت الذي نعيشه الآن. ما يجعلنا نشعر أننا في فضاء حرّ تماماً وواسع. وبالطبع هذا جيد ومفيد كي تتنوّع الرؤى وتغتني.

* كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية في كتالونيا وإسبانيا والعالم؟

الجوائز ظاهرة اجتماعية وليست أدبية. لو نظرنا في قائمة الفائزين بالجوائز في كتالونيا القرن التاسع عشر، فأنا أعرف وأقرأ لثلاثة فقط. بمعنى أنّ الجوائز عادةً تذهب للأسماء غير المهمّة، مَن الذي يُحكّم؟ وما هي المعايير التي على أساسها يقال إنّ هذا العمل يستحقّ جائزة بينما ذاك لا؟ الجوائز دائماً تحمل معها خيباتها، من جائزة نوبل إلى الجوائز الأقل منها شهرة أو أهمية.

* بمن تأثّرت من الشعراء؟

من الشعراء الكتالانيين، تأثّرت بالشاعر أوزياس مارك من القرن الخامس عشر. وهناك أسماء كثيرة من غير الكتالانيين أيضًا، مثل شارل بودلير، وعمر الخيام، وأوسكار وايلد. ومن أميركا اللاتينية ثيسار باييخو وروبين داريو. ومن الإسبان، الشاعر الرومانتيكي غوستابو أودلفو بيكر، شاعر من إقليم أندلوسيا من القرن التاسع عشر، ولهذا الشاعر بيت شهير أُحبّه هو: "الشعر هو أنت".

* ومن من شعراء الجيل الذهبي، أقصد جيل 27؟

أحب أنطونيو متشادو.

* كم ديواناً كتبت حتى اللحظة؟

كتبت تقريباً عشرين ديوانًا. بعضها صغير وبعضها كبير، وأنا لا أعرف!

*هل أنت راض عنها؟

لا. ولكنني مبسوط لأنني كتبت وما أزال أكتب. وأعِد نفسي دوماً بكتابة الأجمل في المستقبل. أكتب حالياً قصائد صغيرة ولا أعرف إلى أين سأصل، لكنني سعيد بها.

* هل من جدوى لكلّ هذا؟

لا بدّ أن يكون له جدوى ولو لبعض الوقت. ولا بدّ أن يظلّ الجمال مجاناً ومتاحاً، رغم أن النظام الرأسمالي بليبراليته المتوحشة، يجهد أن يجعل الناس تفكّر بالجمال كسلعة مُشتراة، فيفوتون كالمسرنمين في اللعبة!
المساهمون