وتختلف المساعي في هذا الاتجاه، فمنها المحاولات السياسية، ومنها التي تجري بدعم طرفٍ عسكري، وهناك أيضاً محاولات الاختراق التي تتمّ عبر البوابة القانونية، ومثال عليها، كما يبدو، الحكم القضائي الذي أصدرته محكمة البيضاء الابتدائية شرق البلاد، الذي يقضي بالسماح لسيف الإسلام القذافي، ووالدته أرملة معمر القذافي، صفية فركاش، بالحصول على أرقام وطنية وثبوتية.
واللافت أن حكم محكمة البيضاء، جاء "في الشقّ المستعجل"، الموجه الى مصلحة الأحوال المدنية، حيث نقلت صحف محلية ليبية تصريحاً لرئيس فرع المصلحة في الجبل الأخضر، محمد صالح الحمر، يظهر تمسّكه بـ"احترام الأحكام القضائية"، مؤكداً استعداده لتنفيذ الحكم وتسهيل "حصول المعنيين على أوراقهم الثبوتية وأرقام وطنية".
ورغم أن "ثورة فبراير" 2011 تمكنت من القضاء على النظام السابق، وإبعاد رموزه ورجالاته من الساحة السياسية لسنوات، إلا أن الانقسام السياسي والاحتراب عادا وسمحا لهؤلاء بالتسلل إلى المشهد مجدداً.
وإلى جانب طرفي الصراع الليبي، انقسم مؤيّدو القذافي، منهم من يقبع في سجون طرف سياسي في طرابلس يحاول استثمارهم، ومنهم من يقف الى جانب معسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الشرق، ومنهم من يرفض الطرفين، وكلُّ ذلك، من دون أن تظهر قيادةٌ موحدة، أو استراتيجية واحدة، لهذه المسارات الثلاثة.
ثلاثة اتجاهات
يقبع عددٌ غير قليل من رموز النظام الليبي السابق في أحد سجون العاصمة طرابلس الخاضعة لسلطة "حكومة الوفاق"، بعدما فرّ عدد آخر خارج البلاد، إثر سقوط النظام عام 2011. وتقيم أبرز الوجوه الفارّة، في القاهرة، حيث برز نشاطها بشكل ملحوظ وظاهر إثر نجاح انقلاب عبد الفتاح السياسي واستيلائه على السلطة.
ومن خلال تتبع مواقف رموز النظام طيلة السنوات الماضية، يصبح من الممكن تصنيفهم إلى ثلاثة اتجاهات أو مجموعات.
المجموعة الأولى، هي تلك التي توالي خليفة حفتر، وتعتبره العربة التي قد تعيدها إلى سدّة الحكم. ومثال على المنضوين ضمن هذه المجموعة، الضابط البارز الذي كان مقرباً من معمر القذافي، ميلاد الفقهي، الذي كلّفه حفتر إدارة الحسابات العسكرية، والعقيد محمد بن نائل، قائد أكبر فصائل حفتر المسلحة في الجنوب.
ولهؤلاء أيضاً، منظرون كثيرو الظهور في الإعلام، كمصطفى الزائدي، أحد "الفلاسفة" الذين عملوا لسنوات للترويج لـ"الكتاب الأخضر"، ويمتلك قناة "ليبيا 24" الفضائية .
أما المجموعة الثانية، فترفض التعامل مع حفتر الذي تصفه بـ"الخائن لرفيقه القذافي، والعميل للأميركان"، كما ترفض التعامل مع الأطراف الليبية الأخرى الموجودة على الساحة، وهي تدعو بقوة لعودة سيف القذافي وتسلمه الحكم. ورغم التمثيل الضعيف لهذه المجموعة، وعدم ظهور شخصيات بارزة فيها، إلا أن عدداً من القنوات التلفزيونية الليبية والمواقع التي يظهر فيها مقدمو برامج التحريض على الثورة، يجعل لهذه المجموعة قبولاً في أوساط مؤيدي النظام في الداخل.
أما المجموعة الثالثة، فيمكن القول إنها عبارةٌ عن تيار موازٍ لتيار داعمي سيف القذافي، لا يقبل بحفتر" إلا شريكاً"، ويقود التيار ابن عم القذافي المقيم في القاهرة، أحمد قذاف الدم، وله فصائل مسلحة موالية له في ورشفانة غرب طرابلس، وفي الجنوب الليبي، وانخرط مؤخراً في دعم اتصالات مع الأطراف المسيطرة على طرابلس، وأخرى مع حفتر، كما أنه اقترب بشكل كبير من برلمان طبرق من خلال صديقه المقرب، محمد الزوي، الذي عيّنه رئيس البرلمان عقيلة صالح كأحد مستشاريه الخاصين.
والجدير بالذكر أن أبرز اتصال بين رموز النظام السابق والأطراف المسيطرة في البلاد، كان لقاءً نظمته مؤسسة "برازفيل" في العاصم السنغالية دكار في مطلع مايو/ أيار الماضي، وضمّ عدداً من قيادات طرابلس مثل عبد الحكيم بلحاج، رئيس "حزب الوطن"، وصالح المخزوم، عضو مجلس الدولة الحالي ونائب رئيس المؤتمر الوطني سابقاً، مع عدد من رموز الصف الثاني في النظام السابق مثل حسن مبروك الزنتاني، والدكتور محمد البرغوثي، والدكتور محمد المدني الحضيري، في وقت كان فيه عدد آخر من الرموز البارزين، مثل الطيب الصافي ومحمد الزوي، يقيمون مؤتمراً في بنغازي برعاية حفتر، أعلنوا فيه ولاءهم الصريح لمساعي اللواء المتقاعد العسكرية.
وإن لم يرشح شيء عن تفاصيل تلك اللقاءات، إلا أن مصادر صحافية سربت حينها أنها جرت بتنسيق كامل من قبل بشير صالح، مدير مكتب القذافي والصديق المقرب لقذاف الدم، ما يشي بأن "التيار الثالث" هو من يقف وراء هذا التقارب.
ومثلما اقترب معسكر شرق ليبيا من قيادات كبيرة في النظام السابق، يبدو كأن المسيطرين على طرابلس يحاولون بدورهم تحسين العلاقة معهم. ففي منتصف يونيو/ حزيران الماضي، أعلن في طرابلس عن الإفراج عن بوزيد دوردة، آخر رئيسٍ لجهاز الاستخبارات الخارجية الليبي، بحجة "وضعه الصحي"، رغم أن هذا القرار لم ينفذ حتى الآن.
ولم يخف بشير صالح مساعي قيادات النظام السابق للتقارب مع جميع الأطراف الفاعلة في ليبيا، فخلال لقاء له مع قناة "فرانس 24" في سبتمبر/ أيلول الماضي، أكد أنه يعمل مع رئيس المجلس الرئاسي لـ"حكومة الوفاق" فايز السراج، وخليفة حفتر، من أجل إعادة الأمن والاستقرار إلى ليبيا. وأشار صالح خلال اللقاء الى محاولته إقناع الأطراف الليبية بأن "عودة الأمن تحتاج إلى عودة قادة الأجهزة الأمنية في نظام القذافي من جديد إلى البلاد، والعمل في مناصبهم لامتلاكهم الخبرة".
سيف الإسلام القذافي
سيف الإسلام القذافي هو الشخصية المحورية والأهم بين رموز نظام القذافي، بعدما كان أبرز أبنائه.
وفي تذكير بهؤلاء الأبناء، فهناك الابن الأكبر محمد، الذي يقيم مع والدته وأخته عائشة في سلطنة عُمان، والساعدي لا يزال قابعاً في أحد سجون طرابلس رغم صدور حكم ببراءته من بعض التهم المنسوبة إليه، وهانبيال، المعتقل لدى السلطات اللبنانية منذ ديسمبر/ كانون الأول 2015 للتحقيق معه في قضية اختفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا في نهاية السبعينيات.
وبالعودة إلى سيف الإسلام، فهو الأكثر حظوة لدى أنصار والده، هو المعروف عنه عمله داخل دوائر حكم والده خلال العقد الماضي وفق "تيار إصلاحي"، في ظلّ الحديث آنذاك عن استعداده لخلافة معمر القذافي في الحكم.
وأطلق سراح سيف الإسلام العام الماضي، بعد سنوات على حبسه في أحد معتقلات مدينة الزنتان الجبلية غرب البلاد، رغم صدور حكم غيابي بالإعدام بحقه من إحدى محاكم طرابلس في منتصف عام 2015. ومع إعلان إطلاق سراحه، عادت آمال أنصار نظام والده إلى الانتعاش.
لكن القذافي الابن، ورغم نيله "الحرية"، آثر الاستمرار في التخفي والغياب، بل حتى المؤتمرات الصحافية التي نظمها باسمه كلٌّ من باسم الصول، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأيمن بوراس في مارس/آذار الماضي، معلنين عن عزم نجل القذافي الترشح للانتخابات المقبلة، عاد ونفاها محاميه الخاص كريم خان، مؤكداً أنه لا أحد يمثل سيف الإسلام حتى الآن، وأن الأخير لم يعلن أي رغبة له في دخول المعترك السياسي مجدداً.
لكن إقبالاً كبيراً من قبل أنصار سيف الإسلام على التسجيل في منظومة الانتخابات بعد فتحها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي تمهيداً للانتخابات المقبلة، تشي إلى رغبة فعلية لدى نجل القذافي في خوض غمار الانتخابات.
في المقابل، يقول مراقبون إن حظوظ سيف قليلة، فعلى الرجل تسوية أوضاعه القانونية قبل الظهور في المشهد الليبي، فهو مطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية، كما أن حكماً بالإعدام صدر بحقه من محاكم طرابلس لا يزال قائماً، أضف إلى ذلك أن الأطراف الفاعلة داخل المشهد الليبي حالياً لا تظهر قبولاً له، فغالباً ما صرح حفتر مثلاً بأن سيف الإسلام "لا يملك الحل في ليبيا"، كما أن فرقاء الغرب الليبي، لا سيما الثوار والاسلاميين، لا يزالون يستذكرون حقبات الظلم التي عاشوها في ظلّ نظام والده الذي جاهر سيف بالدفاع عنه وحمل السلاح من أجله.
رغم ذلك، يبدو أن طيفاً من رموز حكم القذافي لا يزال يعلق الآمال على القذافي الابن، إذ رأى صالح مثلاً خلال المقابلة مع "فرانس 24" أن "سيف الإسلام قادر على جمع الليبيين حوله من جديد"، وذلك بعدما كان عدد من القيادات الاجتماعية والقبلية الموالية للقذافي قد أطلقوا في ديسمبر/ كانون الأول 2016 حراكاً حمل اسم "الجبهة الشعبية لتحرير ليبيا"، ورفع شعار عودة سيف إلى سدة الحكم.
القبائل والدعم الخارجي
من المعلوم أن تكتلات اجتماعية في ليبيا لا تزال تؤيّد النظام السابق، كقبيلة ورشفانة التي تسكن رقعة جغرافية واسعة جنوب وغرب طرابلس، وقبيلة ورفلة في بني وليد جنوب شرق طرابلس.
وفي الجنوب الليبي، ثمة عدد من القبائل المؤيدة أيضاً، أبرزها قبيلة المقارحة التي ينتمي إليها عبد الله السنوسي، صهر القذافي وصندوقه الأسود، القابع في أحد سجون طرابلس.
ولم تخف قبائل أخرى في الجنوب الغربي، وتحديداً في غات وجوارها، دعمها عودة سيف إلى سدة الحكم، وهي تمتلك دعماً عسكرياً كبيراً، ويقودها اللواء السابق في كتائب القذافي، علي كنه، المقرب من سلطات الجزائر التي يبدو أنها تستثمره لحماية قطاعها الحدودي مع ليبيا.
إلى ذلك، يبدو أن أطرافاً خارجية تقف خلف حراك شخصيات بارزة في نظام القذافي، وتسعى للاستفادة منها، فكثيراً ما تحدث متابعو الشأن الليبي، مثلاً، عن انفراد الإعلام الفرنسي بتغطية الأحداث الخاصة بنجل القذافي سيف، و"بشكل حصري"، كإعلان إطلاق سراحه من سجن الزنتان، وكذلك تغطية مؤتمرات باسم الصول وأيمن بوراس، وتصريحات محاميه، ما يوحي بعلاقة ما بين باريس وتحركات سيف.
وفي مصر، يوجد عدد غير قليل من قيادات النظام السابق، منهم المؤيدون لحفتر، ومن بينهم أيضاً أحمد قذاف الدم، صاحب التيار التصالحي مع جميع الأطراف الليبية الذي يسعى لقيادة مساعٍ من أجل "إعادة اللحمة الوطنية للمجتمع الليبي والمحافظة على النسيج الاجتماعي من خلال حوار مجتمعي تكون أسسه القبائل"، بحسب ما صدر عنه خلال تصريحات صحافية.
إلى ذلك، تُظهر بعض دول الاتحاد الأفريقي تعاطفاً مع رموز حكم القذافي، مثل جنوب أافريقيا التي سمحت لبشير صالح بالإقامة وممارسة نشاطه السياسي فيها.
ولا يخفى أن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتردي الأوضاع الأمنية في ليبيا، التي ألقت بثقلها على كاهل المواطنين، دفعت ببعض منهم إلى الحنين لعودة النظام السابق للتخلص من معاناتهم المتزايدة.