ناغورنو ــ كاراباخ... آخر معارك بوتين

06 اغسطس 2014
من حرب أرمينيا وأذربيجان بين 1988 و1994 (فرانس برس/Getty)
+ الخط -

يطول الحديث عن إقليم ناغورنو ــ كاراباخ، وعن ارتباطه الوثيق في الصراع "الأزلي" بين أرمينيا وأذربيجان، وهو من أكثر موروثات الاتحاد السوفيتي السابق تعقيداً. وينجم ذلك التعقيد من واقع أن الاقليم كان جزءاً من السيادة الأذرية، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي، فأعلن سكانه الانفصال عن باكو، وطالبوا بالاستقلال، أو أقلّه الانضمام إلى أرمينيا، وخصوصاً أن 89.1 في المائة من سكان الإقليم، هم أرمن.
لم تكفِ حرب الأعوام الستة (1988-1994)، بين أذربيجان وأرمينيا في رسم خريطة سياسية جديدة للجَيب (4400 كيلومتر مربع)، الذي شاءت الظروف في أن يُصبح مطوّقاً من الأراضي الأذرية، في صورة مشابهة لوضع دولة ليسوتو مع جنوب افريقيا. وطُرح موضوع اتفاقات وقف إطلاق النار في العام 1994، على أساس نجاح القوات الأرمينية، بمعونة مليشيات الإقليم ومساندة روسية، في تحقيق الانتصارات الميدانية، التي لم تتمكن باكو، و حلفاؤها الأتراك والمجاهدون أفغان، من منعها.

لم تؤدّ حرب السنوات الست، سوى إلى هزيمتين عسكرية وسياسية لأذربيجان، وخصوصاً أنّ اتفاق بيشكيك، في قيرغيزستان، برعاية روسيا ووساطة الاتحاد الأوروبي، في 5 مايو/ أيّار 1994، منح الإقليم ومن خلفه يريفان، معظم مطالبهما، فضلاً عن السماح بربط ناغورنو – كاراباخ بالأراضي الأرمينية، عبر معبر لاشين، في مقابل السماح بمعبر مماثل لاقليم ناختشيفان الأذري (5500 كيلومتر مربع)، المنفصل بدوره عن البرّ الأم، بباكو.

معبر ناختشيفان هادئ، قياساً إلى معبر لاشين، الذي يشهد توترات من وقت إلى آخر، كون اتفاق بيشكيك، لم يكن اتفاق سلام، بالمعنى التقليدي، بل فقط مجرّد "هدنة" تجمّد الوضع، حتى اشعار آخر.
لا تخرج قضية ناغورنو ــ كاراباخ عن أزمة مناطق القوقاز بأكملها، من بحر قزوين إلى البحر الأسود، وما بينهما من دول مستقلّة (روسيا، ايران، أرمينيا، أذربيجان، جورجيا، تركيا)، وأقاليم ثائرة (الشيشان، داغستان، أنغوشيا)، وأقاليم أعلنت انفصالها من جانب واحد (أبخازيا وأدجاريا وأوسيتيا عن جورجيا). فالظروف التي أدّت إلى نشوب الحرب في 1988، بين أرمينيا وأذربيجان، كانت مستندة على انتهاء موسم الحرب الباردة، وتداعياتها السياسية على الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية. أما الاشتباكات الأخيرة، التي أدت إلى مقتل حوالي 15 جندياً من الجانبين، فمرتبطة بشكل وثيق بعامل الطاقة، تحديداً.


للبحث في أسباب اندلاع الاشتباكات الأخيرة بين الطرفين، يجب العودة الى العام 2002، حين تمّ التوقيع على خط أنابيب الغاز "نابوكو"، المفترض أن يعبر 3300 كيلومتر، من الجانب الأذري لبحر قزوين، وتوزيع 31 مليار متر مكعّب من الغاز سنوياً، إلى البلدان الأوروبية. وكان من المفترض أن تعبر الخطوط بمحاذاة اقليم ناغورنو ــ كاراباخ، على أن يتم تزويد أوروبا بالغاز، عبر المرافئ التركية والجورجية.

اعتبرت روسيا أن خطوط "نابوكو" موجّهة ضدها، خصوصاً في ظلّ اتكالها على قطاع الطاقة، لتمويل اقتصادها، ووجدت في السوق الأوروبية خير سوق، تحديداً ألمانيا، فسعت إلى تحييد إيران (كون اتفاق عام 2002، أكدّ إمكانية الاتفاق مع طهران لتصدير النفط إلى أوروبا، عبر مرفأ باكو). قبلت إيران بالحليف الروسي المضمون، على حساب الأوروبي المتغيّر. ثم سعت روسيا إلى تحصين نفوذها في أوكرانيا، لضمان استمرارية ضخّ الغاز الى أوروبا، في ظلّ تأمين حليف صلب في كييف.
وبالرغم من الانتصار المرحلي للثورة البرتقالية (2004-2005)، في أوكرانيا، غير أنّ نفوذ موسكو، يبدو أقوى، وهو ما رسّخته أحداث العام الجاري في "رأس الاتحاد السوفيتي السابق"، وانفصال شبه جزيرة القرم وانضمامها إلى السيادة الروسية، وإعلان مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، الواقعتين في الشرق الأوكراني، على الحدود مع روسيا، انفصالهما عن سلطة كييف.

لم تقف الأمور عند هذا الحدّ، فجورجيا، التي أزعجت روسيا كثيراً، أيام رئيسها السابق، ميخائيل ساكاشفيلي، وجدت نفسها أسيرة هجوم ساحق للقوات الروسية، التي طوّقت العاصمة، تبليسي، في العام 2008، منعاً لانضمام جورجيا الى حلف شمال الأطلسي، وبالتالي منع عبور خطوط الغاز أراضي جورجيا إلى أوروبا.

عطفاً على الأحداث الأوكرانية، استغلّت روسيا، النقمة التركية على الاتحاد الأوروبي برمّته، مع إفشال ألمانيا وفرنسا، مساعي تركيا الانضمام إلى الاتحاد، على مدار السنوات العشر الماضية، فرفعت من معدّل توريد الغاز إلى أنقرة، من 16 الى 19 مليار متر مكعّب سنوياً، في مقابل أسعار تحفيزية، سمحت في تحييد تركيا، واكتفاء الأخيرة بمحاولة الاستفادة من توزيع النفط الكردي الآتي من حقول السليمانية وكركوك وأربيل.

لم يعد أمام الروس، سوى النبع، أذربيجان، للقضاء على مشروع 2002 بأكمله. من هنا يُمكن فهم طبيعة الصراع الجاري في ناغورنو ــ كاراباخ؛ ذلك أنّ فكرة السماح لأذربيجان، أو أيّ دولة أخرى، كانت تدور سابقاً في فلك الاتحاد السوفيتي، في التحرّك باستقلالية، أو بمعارضة نظام موسكو، لن تمرّ بسهولة تحت عينيّ الرئيس فلاديمير بوتين. فقد سعى الرجل إلى إحياء، بعض عناصر الاتحاد السابق، عبر توقيع اتفاق "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، مع روسيا البيضاء، وكازاخستان، في 28 مايو/أيّار الماضي، المفترض أن يتّسع مع الوقت، ويضمّ الجزء الأكبر من الدول السوفيتية السابقة.

يُمكن فهم ما يجري حالياً، في اقليم ناغورنو – كاراباخ، بربطه مع ما حدث حين وُقّع الاتفاق. فقد طلبت أرمينيا بالانضمام الى "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، وردّ بوتين بالقول: "يجب المصادقة على هذه الوثيقة (مشروع اتفاقية انضمام أرمينيا إلى الاتحاد الأوراسي)، والتوقيع عليها في القريب العاجل". يريد الجانب الأرميني القيام بذلك، ونحن موافقون بشكل عام. نعوّل على أن تصبح أرمينيا عضواً متكافئاً في الاتحاد قريباً بعد إطلاقه". هناك ثمن للانضمام الى الاتحاد الجديد، والأرمن فهموا ذلك. بوتين يريد منهم خوض معركته الأخيرة لكسر خط نابوكو، وردّ الجميل الروسي الذي دعمهم في كلّ مراحل النزاع مع أذربيجان، والثمن معروف... ناغورنو ــ كاراباخ.