الكونغرس بإمرة لوبي السلاح

24 فبراير 2018
اعتصام طلابي في واشنطن ضد انتشار الأسلحة (أليكس وونغ/Getty)
+ الخط -
مجزرة المدرسة الثانوية في ولاية فلوريدا قبل أيام والتي حصدت 17 وجرحت 15 من طلابها والعاملين فيها، أبعد بكثير من كونها جريمة ارتكبها "مضطرب" كما شاع عنه. فهي تتصل بثقافة عنف أميركي عتيق وبمصالح هائلة لصناعة الأسلحة الفردية التي ارتهن الكونغرس لحمايتها من القوانين الضابطة، بما أبقى أسواقها مفتوحة بدون قيود تقريباً، لبيع منتجاتها للأميركيين من هواة جمع وامتلاك السلاح بغير حدود.

واستندت هذه المصالح إلى نصّ دستوري صدر عام 1791 يجيز حمل السلاح بغرض الدفاع عن النفس. لكن التسليح آنذاك كان غرضه حماية الاستقلال الوليد الذي لم يكن لديه جيش وطني بعد، إلى أن جرى التوسّع في التفسير، بحيث تحوّل إلى حقّ تضخّمت في ظلّه هذه الصناعة، ومعها تحوّل إلى ورم سرطاني. والمفارقة الغريبة والمعيبة أن الطبيب، وهو الكونغرس في هذه الحالة، متواطئ مع المرض.

وتُرجمت المصلحة المشتركة لهواة السلاح وشركات تصنيعه، في إقامة "جمعية البندقية الوطنية" التي تحوّلت إلى لوبي يكاد يجاري اللوبي الإسرائيلي بنفوذه في الكونغرس. وتضمّ هذه الجمعية ملايين الأعضاء المنتمين في معظمهم إلى الخندق الجمهوري واليميني المحافظ، بما جعلها مؤسسة غنية بمواردها المالية وبثقلها الانتخابي، بحيث يوظّف اللوبي هذا الثقل المزدوج في انتخابات الكونغرس، خصوصا في ما يتعلّق بورقته المالية التي يوظّفها في تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين في مجلسي النواب والشيوخ الملتزمين بحماية السلاح ومصالحه.

وتحوّل المال إلى عصب حساس، وإن غير حاسم بالضرورة، خلق نوعا من "الرخص" السياسي الانتخابي. صارت مداراة اللوبي من العناصر المؤثرة في عملية تشريع القوانين في كلّ ما يتعلّق بشؤون السلاح ومشتقاته. وباتت هذه المؤسسة تتحكّم في المواقف والتوجهات، وتفرض لجم أي محاولة تجري في أعقاب كل مجزرة لتقييد الانفلات في اقتناء السلاح. وبذلك جرى شلّ أيّ تحرّك في هذا الاتجاه بالرغم من تنقل المجازر من ولاية إلى أخرى. ففي الأشهر الخمسة الأخيرة، سجّلت أكبر ثلاثة حوادث قتل جماعي من نوعها. وفي كل مرة يسارع المسؤولون إلى تقديم التعازي على قنوات التلفزة مع التطمينات والوعود بالتحرّك للحيلولة دون وقوع مجازر مشابهة. وفي هذه المرة تكرر المشهد نفسه: وزير العدل ورئيس مجلس النواب والرئيس دونالد ترامب، أطلّوا ببيانات إدانة وأسف ووعود بالإصلاح.


والتقى ترامب، الأربعاء، في البيت الأبيض، بوفد كبير من عائلات الطلاب الضحايا. سمع مرافعات طافحة بالإحباط والغضب، لكنّ التوقّعات بأنّ الكونغرس لن يذهب إلى أبعد من محاولات ترقيع لا تطاول جوهر المشكلة، مثل التحقّق من سوابق الفرد وحالته العقلية وحسن سلوكه قبل الموافقة على بيعه السلاح. لكنّ هذه الإجراءات الترقيعية لا تقارب أصل الداء الذي تحوّل إلى إدمان قاتل في الحياة الأميركية. كما تحوّل الحق الدستوري الملتوي تفسيره، إلى وثيقة شبه مقدّسة أعطت السلاح قدسية خاصة في مجتمع متأصّل فيه العنف منذ البداية، ما ساهم في تعميق ثقافة السلاح الذي تقام له المعارض المفتوحة، والتي يمكن للمواطن أن يشتري منها ما يريد من أنواع الأسلحة الفردية، وبالكمية التي يريدها، وأحياناً بدون التحرّي عن سوابقه والاستعلام عن سلوكه من الجهات الأمنية المختصة.


ونتيجة هذا التساهل، صار لدى الأميركيين من قطع السلاح المتنوّع، ما يزيد على عدد السكان (330 مليون نسمة)، بما يشكل 42 في المائة من السلاح الفردي في العالم. فائض موزّع على الأميركيين كافة، بمن فيهم أصحاب السوابق المفترض أن لا يؤتمنوا على امتلاك آلة القتل، ومنهم المختلون عقلياً والمهووسون بحمل السلاح، وهو ما يؤدي إلى سقوط حوالي 35 ألف قتيل سنوياً، بصورة فردية وجماعية عشوائية. وفي كل مرة ينبري حماة السلاح، وعلى رأسهم اللوبي، لوضع الملامة على "اختلال عقل الجاني"، وليس على توفّر السلاح لأي كان. 

لوبي السلاح في أميركا "لا تهمه أرواح المواطنين بقدر ما تهمه زيادة مبيعات السلاح"، كما يقول المعلّق مايكل كرونيكل. لكن الكونغرس الذي يهمه رضى هذا اللوبي قد يدفع الثمن في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، خصوصاً الجمهوريين المرجّحة خسارتهم للأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ بعد أن تراكمت عليهم المآخذ منذ مجيء ترامب، وآخرها مأخذ دعم لوبي السلاح الذي يقترب خطابه من الإفلاس في نفي حقيقة أن غزارة القتل تأتي من غزارة السلاح في أميركا.