حسين العباسي... إبن القيروان حمله "الاتحاد التونسي" إلى نوبل

24 يناير 2017
تمسك العباسي بالوفاق حتى آخر لحظة بمسيرته النقابية(أمين لاندولسي/الأناضول)
+ الخط -

إلى آخر لحظة في مسيرته النقابية، ظل الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي، متمسكاً بالوفاق، داعياً إلى تبني قائمة وفاقية داخل الاتحاد، تواصل على نفس المسار، ومحذراً من "وجود محاولات تهدد التوافق العام للبلاد"، ومنبهاً إلى أنه ''على الرغم من كل النجاحات والتقدم في بناء المؤسسات، فإن المشهد العام بالبلاد لا يزال مهدداً بانخرام (تأزم) الوضع الاجتماعي والسياسي... وبأن بعض محاور الاختلاف لا تزال تثير من حين لآخر مخاطر الاستقطاب والتناحر الإيديولوجي، مهددة بذلك التوافق العام الذي نجحنا في تركيزه إلى حدّ الآن''.

كانت هذه كلمات العباسي الأخيرة كأمين عام للمنظمة النقابية العريقة، في افتتاح مؤتمرها الثالث والعشرين أول من أمس الأحد، وهي التي قادت الحوار الوطني في تونس. وكان من الطبيعي أن يبقى العباسي متشبثاً بالثمرة التي رعاها شخصياً، وفرض على الأطياف التونسية المتصارعة في 2013 أن تلتف حولها لأنها حبل النجاة الوحيد الذي سيجنب تونس سيناريوهات ليبيا واليمن وسورية.
غير أن رحلة الرجل بدأت قبل ذلك بكثير، تحديداً في مدينة السبيخة في محافظة القيروان، حيث ولد وترعرع. نشأ العباسي بين أحضان النضال النقابي، وهو ابن الفلاح الصغير الذي أصبح معلماً ثم قيّماً مرشداً (مهمة إدارية في المعاهد الثانوية)، لتبدأ رحلته النقابية من أصغر المسؤوليات في السلّم النقابي، وصولاً إلى أعلاها، كأول أمين عام للاتحاد بعد الثورة. اتحاد يُعتبر أكبر تنظيم نقابي ــ سياسي يساري في تاريخ تونس الحديث، والتصق اسمه بتونس عموماً، منذ ما قبل استقلالها، ليكون الاتحاد فعلياً، أكبر من نقابة وأهم من حزب.


قد لا يدرك البعض مغزى هذا الاهتمام بشخصية نقابية، قد تبدو عادية في بعض التجارب العربية أو الأوروبية، لكن المطلعين على تاريخ العمل النقابي في تونس يعرفون أن منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل شكلت على مدى سبعة عقود من الزمن، عَصَب الحياة السياسية في تونس، ومصدر الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي فيها، وسبباً رئيساً في الحفاظ على الطبقة الوسطى في تونس، وملجأ للمضطهدين من الأنظمة المتعاقبة، أسقطت المنظمة حكومات وأطاحت بوزراء.

لم تفلح جميع محاولات ضرب المنظمة، حتى من الزعيم الحبيب بورقيبة، القويّ الذي نجح دائماً في إزاحة كل خصومه. ولم يتمكن أي حزب من السيطرة على قواعد الاتحاد، وكان دائماً خليطاً من الأحزاب والتيارات الفكرية المختلفة، وإن كانت التوجهات اليسارية التي آمنت باكراً (منذ بدايات القرن الماضي) بجدوى العمل النقابي، تشكل غالبية قواعده. وأصبح "الاتحاد" كما يسميه التونسيون، رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في أي برنامج للحكومة أو قرار أو موازنة. غير أن دوره لم يقتصر على المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وإنما كان أيضاً دوراً سياسياً بامتياز، وحقوقياً، تعاظم بعد الثورة بشكل لافت، بعد أن فتح مقراته لحماية المتظاهرين الذين واجهوا الدكتاتورية، وقاد الإضراب العام في 14 يناير/كانون الثاني 2011 الذي أدى إلى إسقاط النظام. ويشير العباسي إلى "خمس سنوات تراوحت بين الإخفاق والنجاح، وخمس سنوات من المخاض العسير توج أثرها الاتحاد بموقع الريادة"، معبراً عن أمله في "أن تكون قيادة الاتحاد في المستوى المأمول للأمانة التي عهدت لها".
ويذكّر بأن "المنظمة العمالية تسلمت المشعل في ظروف غير مستقرة حينها، مندداً بما تعرض له الاتحاد العام التونسي للشغل من حملات تشويه غايتها إرباك هياكله وتكبيل خطواته، طاولت الاعتداء على المنظمة خلال إحياء ذكرى اغتيال الزعيم فرحات حشاد من قبل مليشيات روابط حماية الثورة".
لا يمكن التوقف بالتفاصيل عند كل المحطات التي وضعت الاتحاد وقيادته الجديدة بعد الثورة في اختبارات متلاحقة، لكن ما حدث منذ 2012 إلى اليوم غيّر مجرى تاريخ هذه المنظمة العريقة، وتاريخ الرجل الذي قادها، وساهم في إنقاذ تونس من السقوط في أتون العنف، وصولاً إلى التتويج بجائزة نوبل للسلام.

ومع الاغتيالات السياسية، وفشل حكومات ما بعد الثورة وصولاً إلى الترويكا (النهضة والتكتل والمؤتمر) في تحسين الظروف الاقتصادية وتصاعد المطالب الاجتماعية الاقتصادية السياسية في كل جهات البلاد وتتالي الإضرابات، المنظمة منها والعشوائية، دخلت حكومة الترويكا في مواجهة مباشرة مع الاتحاد. يومها اتهمته بمحاولة إسقاطها عبر الإضرابات المتلاحقة وتعطيل إنجاز المشاريع وإيقاف آلة الإنتاج. ومع بدايات 2013، وفي ضوء الأحداث المتسارعة في مصر وفي بقية المنطقة العربية، صارت المواجهة في تونس بين معسكرين، وتوقف عمل المجلس التأسيسي، وأصاب الساحة التونسية شلل تام، كان يتهدد الخطوات القليلة التي قطعتها تونس في مسارها الانتقالي. وبينما كان الجميع يتوقع أن تتحول المواجهة بين الفريقين، المتمترسين في الشارع بقواعدهما، إلى أحداث عنف، خرج العباسي، باسم الاتحاد، وبمعيّة المنظمات الثلاث الأخرى، يدعو الجميع إلى طاولة حوار وطني تحدد خارطة طريق لإنهاء الأزمة والذهاب إلى انتخابات تفصل صراع الشرعية الذي كان مطروحاً وقتها.
وقاد العباسي بنفسه أصعب مرحلة من تاريخ تونس الحديث منذ الاستعمار، إذ إن جميع الصعوبات والمشاكل التي عرفتها تونس لم تكن أخطر من المواجهة العنيفة والمسلحة بين التونسيين، الذين لم يعرفوا في تاريخهم لحظة مخيفة مثلها.
وكان على العباسي أن يبني حواراً على أساس من انعدام الثقة المطلق بين الفرقاء، والريبة المتبادلة، والشك في كل تفصيل أو اقتراح. يُضاف إلى ذلك ما كانت تخطط له أطراف خارجية لإسقاط الحوار برمّته ونسف خطواته القليلة التي كان بصددها.

الرجل قال إنه سيكتب مذكراته حول الحوار الوطني، الذي استطاع أن يجمع الأضداد، وأن يفرض على الجميع أن تغادر قواعده الشارع، ويعود المجلس التأسيسي إلى عمله، وصولاً إلى تشكيل حكومة محايدة واستكمال الدستور والدخول في انتخابات. وبين مشهد المواجهة بين الترويكا والاتحاد في ذلك الوقت، ولقاءات العباسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي المتكررة اليوم، مسافة ضوئية لم يكن أكثر المتفائلين يتوقعها. وبين الصراع التقليدي للاتحاد مع النظام، أيًّاً كان من يقوده، وتوقيعه على وثيقة قرطاج (الوثيقة التي دعا إليها الرئيس الباجي قائد شكلت أرضية حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها حالياً يوسف الشاهد)، مسافة مماثلة، تثبت أن الرجل نجح في مهمة من أصعب الاختبارات التي وضعت منظمته في خيارات تاريخية حاسمة، وأنه يرتقي إلى مصاف المؤسسين، فرحات حشاد وأحمد التليلي والحبيب عاشور وغيرهم.
ومن السبيخة في القيروان إلى أوسلو في النرويج، حيث نال الرجل جائزة نوبل للسلام عام 2015 (بصفته أحد أطراف الرباعي الراعي للحوار)، كانت رحلة العباسي استثنائية بكل المقاييس، ولم تكن خالية من أخطاء كما قد يتبادر إلى الأذهان، وقد اعترف بها بنفسه منذ يومين، عندما كان يودع قواعده النقابية، متأثراً إلى حد البكاء.

المساهمون