مهرجان القاهرة السينمائي الـ40: "كاميرا مُتمهِّلة"

26 نوفمبر 2018
"روما" لألفونسو كوارون.. سحر الجماليات (فيسبوك)
+ الخط -
تشهد الدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" حيوية تتمثّل بوفرة أفلام مشهود لها بجماليات عديدة، وبتمكّن بصري من معاينة أحوال وانفعالات. الخيارات مثيرة للاهتمام والمتابعة، وهذا غير عائدٍ إلى كون بعض الأفلام المختارة مستلٌّ من مهرجانات دولية ومن فوزه بجوائز منها فقط، إذْ ينكشف الجهد في سعي إلى تقديم أفلام عربية فيها شيء من تجديد سينمائي في تناول حكاياتٍ، وتصوير مشاعر، وقراءة راهن، واستعادة ذاكرة.
أحد أبرز أحداث الدورة تلك منعكسٌ في تمكّن إدارة المهرجان، برئاسة المنتج المستقلّ محمد حفظي، من الحصول على إجازة عرضٍ واحد لـ"روما" للمكسيكي ألفونسو كوارون، في برنامج "الاختيار الرسمي ـ خارج المسابقة"، بعد مفاوضات دؤوبة مع منصّة "نتفليكس". والفيلم ـ الفائز بجائزة "الأسد الذهبي" في الدورة 75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ يغوص في يوميات خادمةٍ محبوبة في دار مخدوميها، لكنها تعاني أهوالاً عاطفية ونفسية جرّاء صدمة حبّ وولادة جنين متوفٍ. فـ"روما"، الذي يُعرض على شاشة منصّة "نتفليكس" في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2018، يذهب بعيدًا في التقاط نبض تلك اليوميات، بـ"كاميرا متمهِّلة" في تصوير تفاصيل وجوانب كثيرة، بدقّة باحثٍ عن آثار مدفونة في أعماق الذات الفردية، ويتوغّل في مسام البناء الإنساني لعلاقات واضطرابات في مدينة مرتبكة.
المفاوضات المذكورة منصبّة على تقنياتٍ، يُطلب من إدارة المهرجان تجهيزها للسماح بذاك العرض الواحد (أجهزة صوتٍ وصورة)، فإذا بالعرض نفسه، المتمكّن من جذب عدد كبير من المهتمّين الجالسين في مقاعد "المسرح الكبير" في "دار الأوبرا"، يُنشئ مناخًا هادئًا وصمتًا يندر حصولهما في عروض مهرجانات مصرية وعربية عديدة. غير أنّ بعض هؤلاء غير متردّد عن "شتم" الفيلم بطريقة شعبية تخلو من أي احترام وتقدير للفيلم وللجهود المبذولة لعرضه في القاهرة، أثناء مهرجانها المعرّض، في كلّ دورة سنوية، لضغوط وحملات منبثقة من نزاعات مصرية داخلية. وهذه نزاعات "مزمنة"، إذْ لن يتوقّف صانعو الحملات عن أفعالٍ غير مرتبطة بالسينما ونتاجاتها وبالمهرجان وتطويره، لانشغالهم بحساسيات باهتة ومسطّحة و"تافهة"، لأنهم غير ممتلكين مسائل جوهرية لنقاشها، أو تفكيراً سليماً لبلورة خطط تجديدية يُشاركون إدارة المهرجان بها لمصلحة الحدث لا الأشخاص.


لـ"روما" حقٌّ في كتابة مستقلّة، لامتلاكه جماليات تصوير وأداء وتوليف وإضاءة، تُضاف إلى نصّ متماسك وبناء درامي يسرد ـ بالأسود والأبيض ـ فصولاً من حكايات عائلة مقيمة في حي "روما" في العاصمة المكسيكية، ومنتمية إلى طبقة بورجوازية، أو ربما "طبقة وسطى" تنقرض في الاجتماع العام. وهذا كلّه في بداية سبعينيات القرن الـ20، باضطراباتها الاجتماعية والسياسية والطالبية المختلفة.
الكاميرا المتمهِّلة، المستخدمة بوفرة في "روما"، هي تلك المنشغلة في تصوير لقطات متتالية بتمهِّل كبير أقرب إلى البطء، علمًا أن استخدام مفردة "البطء" توحي بموقف سلبي، بينما التمهّل أقرب إلى الإيجابيّ لشدّة براعته في تفسير المعنى الفعلي لحركة الكاميرا وتفاعلها مع ما يُفترض بها تصويره. كاميرا كهذه حاضرةٌ أيضًا في "مانتا راي" للتايلاندي فونتيفونغ أرونفينغ (المسابقة الرسمية): ارتكاز شبه مطلق على صمتٍ يُتيح للعدسة مساحات أوسع وأعمق لالتقاط تفاصيل بيئة مخضّبة بالنزاعات الدينية ـ الطائفية، عبر حكاية صيّاد يُنقذ شابًا من الموت، ويجتهد في إعادته إلى الحياة، قبل سقوطهما في أفخاخ تلك النزاعات، كما في أهوال التمزّقات شديدة العنف التي تحاصرهما، فرديًا وجماعيًا في آن واحد.
المشترك السينمائيّ بين "روما" و"مانتا راي" متمثّل بتلك الكاميرا المتمهِّلة، وبتلك الشخصيات الصلبة ظاهريًا والهشّة داخليًا، وبتلك الاضطرابات المحيطة بها إلى درجة تمكّنها، أحيانًا، من اختراق الشخصيات نفسها، ودفعها إلى خيارات صعبة. وإذْ يعتمد ألفونسو كوارون (روما) على ثنائية الأسود والأبيض للتدقيق في مسارات ومصائر ويوميات، فإن فونتيفونغ أرونفينغ مهووس بألوان يتبيّن لاحقًا، مع المتابعة الدقيقة والهادئة والجميلة للغليان المعشِّش في نفوسٍ وبيئات، كأنها امتداد للثنائية هذه.
هذان نمطان سينمائيان يتشابهان في كيفية الاشتغال البصري المتنوّع، ويختلفان أحدهما عن الآخر، موضوعًا وسردًا وتقديمًا وشخصيات وبيئات. فـ"روما" يحافظ على واقعيةٍ تبلغ، أحيانًا، حدًّا قاسيًا في التعبير عن حراكٍ فرديّ إزاء موقف أو انفعال أو علاقة أو نظرة، بينما "مانتا راي" غير متردّد عن تجاوز الخطّ الفاصل بين الواقعية والشعرية، رغم أن جوهر قصّته مرتبط بواقعية محمّلة بعنفٍ عنصري طائفي ديني. لكن شعرية فونتيفونغ أرونفينغ لن تبقى أسيرة كلامٍ يروي أو يُفسِّر أو يبوح بنبرة هادئة ومفعمة بالغليان الذاتي ـ الداخلي، لأن في الصورة كمًّا هائلًا من شعرية سرد التفاصيل المثيرة لمتعة العين والروح والانفعال، أمام نبرة بصرية مفعمة بمتخيّل يتفوّق على جمالية اللغة المكتوبة.
صحيحٌ أن ثنائية الأسود والأبيض بحدّ ذاتها (روما) تمتلك خصوصية شعرية في التصوير والسرد السينمائي والغوص في متاهة روح وجسد، إلا أن "شعرية الواقع" (مانتا راي)، إنْ يصحّ قول كهذا، تغلب تلك الثنائية في تمكّنها الساحر من مزج بعض كلامٍ بوفرة صُور تلتقطها كاميرا متمهِّلة في تشييد علاقة حسية ومعنوية مع وقائع منوي سرد تفاصيلها.
المساهمون