بينما العالم مشغول بالتانغو الأخير

27 نوفمبر 2018
برناردو برتولوتشي (تويتر)
+ الخط -
لو كانت هناك ميزة واحدة يمكن أن تتصف بها مسيرة وأفلام المخرج الإيطالي الكبير برناردو برتولوتشي فهي الثورية، وهي صفة لا تخص فقط شخصيات وحكايات أفلامه، ولكن أيضاً تأثيرها في تاريخ السينما. 

نشأ برتولوتشي في بيئة ساهمت في تكوين رؤيته وأسلوبه المتفرد، سواء في السياق العام الذي شهد فترة مميزة في تاريخ السينما الإيطالية في الستينيات، أو في حياته الشخصية التي كان فيها، وفي العشرين من عمره فقط، مساعداً للمخرج الكبير بيير باررو بازوليني، الذي اختاره لأنه صديق لوالده ولأنه رأى في القصص والأشعار التي كتبها برتولوتشي خلال المراهقة شيئاً مميزاً. ومع كل هذا الاتقاد والحماسة والتشجيع وشكل السينما نفسه في إيطاليا لم يكن غريباً أن يخرج أول فيلم له وهو في الحادية والعشرين من عمره فقط La Commare Secca (1962)، ثم يتبعه بفيلم ثان أهم هو Before the Revolution (1964)، الذي حمل بذور لغته السينمائية؛ حيث العلاقات الغريبة والجريئة، ومساحة من التحرر الجسدي، والأفكار السياسية التي تغلف ما يحدث.

ولكن الأثر "الثوري" الأكبر لـ برتولوتشي خلال الستينيات كان مشاركته في كتابة سيناريو فيلم Once Upon a Time in the West (1968)، مع المخرج سيرجيو ليوني، والذي يعتبر حتى الآن واحداً من علامات السينما وأكثر أفلامها شعبية، وكثيرون لا يعرفون أن برتولوتشي كان شريكاً في كتابته، وأنه طور كثيراً في وجهه النظر السياسية التي يحملها الفيلم، وأضاف أبعاداً أخرى لصنف "السباغيتي ويسترن"، أو الغرب الأميركي المغلف بأسلوب أفلام العصابات الإيطالية، وهو شكل سينمائي ابتكره "ليوني" وساهم فيه برتولوتشي بجرأة ضمن هذا الفيلم.

مع بداية السبعينيات منحه فيلم The Conformist (1970) تقديراً استثنائياً كمخرج، ورشح لأوسكار أفضل سيناريو، وحقق طفرة بصرية لم يشهد العالم مثلها في تعاونه الأول مع مدير التصوير الكبير فيتوريو ستورارو. ولكن عمله الأكثر شهرة وجرأة كان Last Tango in Paris (1972)، الذي عانى قبله من اكتئاب حاد وأفكار انتحارية، فاستقدم الممثل مارلون براندو الذي يحكي أنه كان يمر بفترة صعبة أيضاً، ويدمجان "آلامهما المشتركة" (حسب تعبير برتولوتشي) في الفيلم، الذي يدور عن رجل محطم في منتصف العمر يدخل في علاقة جنسية جامحة مع فتاة فرنسية، ليأتي الفيلم صادماً، في أفكاره وأسلوبه ومشاهده، بشكل غير مسبوق، ويصنع دوياً عالمياً كبيراً حينها، وجدلاً لا يزال مستمراً حتى الآن عن أخلاقية الطريقة التي تم بها تصوير مشاهده الجنسية.

وفي الوقت الذي انشغل فيه العالم بـ"التانغو الأخير" وما يقدمه، كان برتولوتشي مشغولاً ويعمل على شيء آخر تماماً، وهو ملحمة "1900"، الفيلم الذي صدر عام 1976، وتدور أحداثه في خمس ساعات، عن العلاقة بين صديقين من مرحلة المراهقة إلى الكبر، مستعرضاً تاريخ إيطاليا وكل ما مرت به من تغيرات، منذ بداية القرن وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ومرة أخرى كان برتولوتشي مختلفاً وثورياً ويتحرك بطموح سينمائي لا يشبه كل ما أتى بعده.


الغريب حقاً أنه بعد تلك اللحظة، والتي لم يكن فيها الرجل قد وصل إلى الأربعين حتى، خفتت بشدة قوته وتأثيره في السينما، وخف جموح وثورية ما يقدمه. صحيح أنه فاز بالأوسكار كأفضل مخرج وكاتب عام 1987 عن فيلم The Last Emperor، وعاش حينها - نظرياً - لحظته الأكثر نجاحاً.
إلا أن العمل نفسه كان محافظاً ذا وجهة نظر غربية عن حكاية آخر إمبراطور صيني. وخلال العقود الثلاثة التي تلت ذلك لم يقدم برتولوتشي الكثير، يذكر البعض فيلمه The Sheltering Sky (1990) باعتباره نسخة أميركية من "التانغو الأخير"، واشتهر فيلم The Dreamers (2003) وقت عرضه بسبب الجرأة التي يمتاز بها، ولكن لا شيء منهما أو من أعماله غيرهما في العقود الأخيرة ضاهى الأثر الضخم الذي صنعه برتولوتشي خلال سنواته الأولى الجامحة، وهو الأثر الثوري الذي يجعله واحداً من أعظم مخرجي إيطاليا والسينما عبر تاريخها.
المساهمون