متأبطا كيس ألبان من أربع وعشرين علبة من الحجم الصغير، ينتظر الأربعيني الموريتاني السالك ولد محمد فال سيارة أجرة على ناصية سوق "أف"، جنوبي نواكشوط بعد أن اقتنى حاجة عائلته من الحليب المعلب منخفض السعر بسبب مداهمة تاريخ نهاية الصلاحية للمنتوج، الذي ما يزال "أمامه ثلاثة أسابيع قبل انتهاء صلاحيته، ولا خطر منه" كما يقول السالك بينما يشير إلى تاريخ العبوات التي سيطعهما لأطفاله.
ويعد سوق "أف" قبلة الباحثين عن المواد الغذائية منتهية الصلاحية، أو تلك الموشكة على ذلك، ويقدر المدير المساعد لحماية المستهلك وقمع الغش بوزارة التجارة محمد المصطفى ولد اعلي، حجم المواد الغذائية المتداولة في السوق بعدة أطنان شهريا، من الحليب والمعكرونة والمشروبات الغازية، في ظل عدم توفر إحصائيات دقيقة لحجم التجارة في سوق عشوائي يعد "أهم وكر لتجارة المعلبات الموشكة على انتهاء الصلاحية" على حد قوله.
يموج السوق طول اليوم بحركة دائبة تشبه ساعات الذروة في غيره؛ ووفقا لما وثقه معد التحقيق عبر جولة ميدانية، فإن المعلبات منتهية الصلاحية أو الموشكة على انتهاء الصلاحية تنتشر بين أرجائه وتباع في وضح النهار؛ بنحو نصف سعرها الأصلي؛ إذ تتوفر الألبان طويلة الأجل سعة لتر واحد بثمن 250 أوقية (أقل من دولار)، بدلا من 500 أوقية (قرابة دولارين)، وينخفض السعر باضطراد مع تجاوزه تاريخ انتهاء الصلاحية، وهو ما يتكرر في العصائر والمعلبات الغذائية، الموجودة إلى جانب مواد التجميل والمعلبات الغذائية ما يضاعف صعوبة الرقابة على السوق بحسب المدير المساعد لحماية المستهلك وقمع الغش.
أثناء الجولة، اشترى معد التحقيق عدة قناني من لبن الأطفال يظهر بوضوح انتهاء تاريخ صلاحيتها، بالإضافة إلى علب حليب تم محو تاريخ إنتاجها وانتهاء صلاحيتها.
تجار: لا نجبر أحداً على الشراء
برباطة جأش يقف التاجر سيدي إلى جانب بضاعته التي تتكون من ألبان وعصائر معروضة على عربة بعجلتين في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس قائلا: "لا أجبر أحدا على شراء البضاعة، ولا أشعر بوخز الضمير، إذ لا أقوم بعمل غير أخلاقي وانتهاء تاريخ الصلاحية لا يعني أنها تسبب تأثيرا على الصحة؛ فتاريخ انتهاء الصلاحية هدفه التحذير ليس إلا!"، وهو ما رفضه المختص في الطب العام، الدكتور الأديب ولد حمادة مؤكدا أن المعلبات الغذائية منتهية الصلاحية تمثل أكبر تهديد للصحة العمومية في موريتانيا إذ يبدأ ضررها من التسمم الغذائي ويصل حتى سرطانات الجهاز الهضمي والبلعوم والمريء.
ودقت الهيئات العلمية الموريتانية ناقوس الخطر نظرا للارتفاع الكبير في عدد الإصابات بمختلف أنواع السرطانات في الآونة الأخيرة، وفقا لما يؤكده الطبيب ولد حمادة وخبراء الصحة والتغذية الذين يحذرون من انتشار استخدام المعلبات الغذائية منتهية الصلاحية؛ "في ظل ظروف عرض غير صحية تحت الشمس ما يعجل بفسادها حتى لو بقي عام كامل قبل انتهاء تاريخ صلاحيتها".
وتؤكد سجلات المركز الوطني للإنكولوجيا (مستشفى أمراض السرطان)، أنه في حين تمثل سرطانات الثدي الأكثر شيوعا بين النساء، في مقابل شيوع سرطانات الرئة لدى الرجال، تعد سرطانات الجهاز الهضمي (المعدة والبنكرياس والأمعاء والحويصلة الصفراوية) النسبة الأعلى بين الجنسين معاً وتحتل المرتبة الأولى بحدود النصف من مجمل الإصابات المسجلة في عام 2014 والتي بلغت 961 حالة إصابة جديدة وتم تسجيل 1050 حالة جديدة خلال عام 2015 فيما سجلت 963 حالة إصابة جديدة، منذ بداية عام 2016 وحتى 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بحسب إحصاء حصل عليه معد التحقيق من المركز.
ويكشف مسؤول في المركز الوطني للإنكولوجيا، فضّل عدم ذكر اسمه، لكونه غير مخول بالحديث، أن المسجل من حالات الإصابة بالسرطان لا يعطي صورة دقيقة عن حجم انتشار المرض لأن أغلب المرضى لا تشخص حالاتهم وقد يلجأون للعلاج التقليدي بمجرد ما يطلب منهم الطبيب العام إجراء اختبارات لكشف ما إذا كانوا مصابين بأورام خبيثة.
كبار الموردين يتخلصون من المواد قريبة الأجل
من يموّن تجار المواد منتهية الصلاحية بالبضاعة؟ سؤال قادنا البحث عن إجابة عنه إلى قلب العاصمة، حيث شارع الرزق أهم سوق للمواد الغذائية في قلب نواكشوط؛ هنا يتحدث مستهلكون وعمال عن بيع بعض كبار الموردين للمواد قريبة الأجل؛ لتجار الضواحي بسعر مخفض جدا يجنبهم الخسارة الكاملة.
ويعترف المدير المساعد لحماية المستهلك وقمع الغش بأنه "أحيانا يبيع الموردون ورجال الأعمال المواد التي اقترب انتهاء صلاحيتها بنصف ثمنها تقريبا لتجار أدنى؛ وهنا يظهر إشكال عدم سماح القانون لنا بمصادرة مواد قبل انتهاء الصلاحية؛ لكن في حال اتضح عدم الصلاحية قبل الأجل مثل انتفاخ العلبة الحاوية أو محو التاريخ فإننا نصادرها؛ ولكن مكمن الصعوبة الفعلي يبقى المواد المغشوشة التي تصعب الرقابة عليها".
غير أن أغلب الموردين يلتزمون بالتصريح عن تاريخ نهاية المخزون؛ وتوفد الإدارة وكيلا يعد محضرا بالكمية ويصادرها لحين إتلافها تحت إشراف قضائي، وبهذه الصيغة تتلف سنويا مئات الاطنان من المواد منتهية الصلاحية؛ فلدينا مخزن كبير وبمجرد ما تتجمع فيه كمية كبيرة نتلفها بالطرق القانونية، يقول محمد المصطفى ولد اعلي.
وأكد تجار في شارع الرزق لـ"العربي الجديد" أن عصابات تعمل على تزوير تواريخ المواد بشكل احترافي أبرزهم شخص يعرف بــ "محمد منتهي الصلاحية" يعمد إلى طباعة تواريخ جديدة للمواد منتهية الصلاحية.
ويعترف مدير حماية المستهلك وقمع الغش ولد اعلي بوجود مثل هذه العصابات ويقول إنه قبل ثلاث سنوات ضبط مصنع يشتري أصحابه المواد منتهية الصلاحية ويطبعون عليها تواريخ جديدة، واعتقل بعضهم وقدموا للعدالة وتسلمت الشرطة الدولية "الإنتربول" مذكرة توقيف بحق الفارين.
وفي سوق "أف" والضواحي البعيدة لا يحتاج التجار إلى تغيير التاريخ، بل يكتفون بمحوه حتى لا يلفت انتباه المستهلك محدود الثقافة الصحيّة، وفق رئيس المنظمة الموريتانية لحماية المستهلك غير الحكومية الخليل ولد خيري.
بيد أن هناك مواد كثيرة مثل الحليب المجفف في أكياس 25 كلغ؛ وزيت الطعام في البراميل الكبيرة والمتوسطة؛ يمكن تسويقها بسهولة بعد انتهاء صلاحيتها؛ بمجرد تفريغها من حاوياتها وبيعها بالتقسيط حتى في قلب العاصمة حيث تنشط الرقابة؛ كما يقول ولد خيري؛ والذي أوضح أن الأمر يتكرر مع مواد أخرى مثل السكر والأرز والشاي والمعلبات الغذائية والألبان المعلبة والتمور والعجائن الغذائية.
العقوبة القانونية
"تنص المادة 1222 من المدونة التجارية على أنه: "يعاقب بغرامة تتراوح بين 10 آلاف و100 ألف أوقية (من 30 إلى 300 دولار) كل منتج أو بائع بالجملة أو مستورد أو مشتر لغرض البيع يثبت عليه بيع منتجات منتهية الصلاحية أو فاسدة للمستهلكين".
ويوضح الخبير القانوني محمد المامي مولاي اعلي، أن دعاوى الغش وبيع المواد منتهية الصلاحية نادرا ما يقيمها أحدهم في موريتانيا، نظرا لأن أغلب المستهلكين تنقصهم الثقافة القانونية؛ علاوة على أن هذه المادة ما تزال جديدة نسبيا إذ دخلت المدونة التجارية في التعديل الأخير في 30 نوفمبر 2015.
وبقوة القانون ـ يضيف المحامي مولاي اعلي ـ يمكن لوكلاء الوزارة المختصة (وزارة التجارة) حجز المواد المنتهية الصلاحية وإحالة الملف للعدالة وفقا لمقتضيات المدونة، ويمكن أيضا لكل شخص متضرر رفع الدعوى من أجل تحريك الدعوى العمومية وفقا للقواعد العامة للإجراءات الجنائية، ولكن نظرا لنقص الوعي بحقوق المستهلك نادرا ما ينظر المستهلكون في تاريخ انتهاء صلاحية المعلبات وإذا حدث واكتشف أحدهم عيبا واضحا كتغير طعم المنتج أو لونه أو شكله يكتفي بإعادته للمحل من أجل استبداله بآخر فقط".
مساعٍ لقمع الغش
يقول محمد المصطفى ولد اعلي، المدير المساعد لإدارة المنافسة وحماية المستهلك وقمع الغش في وزارة التجارة إن لدى إدارته فرقاً تنسق مع السلطات الإدارية وتبذل جهودا كبيرة في قمع محاولات الغش.
ويضيف المسؤول الحكومي أن المهمة تزداد صعوبة عندما يتعلق الأمر بصغار التجار أما بالنسبة لكبار الموردين فإننا "نكون على علم بتاريخ انتهاء صلاحية مخزوناتهم ونقوم بالتفتيش في الوقت المناسب، وهناك قانون صادر سنة 2007 يحدد قائمة المواد الخاضعة لنظام التصريح بالمخزون".
ويضيف أن المنتجات المستوردة هي الأكثر في مجال تجارة المواد منتهية الصلاحية؛ إذ يفرض القانون وسم كل مادة مصنعة محليا بتاريخ الإنتاج وتاريخ انتهاء الصلاحية، ولكن يبقى هناك مشكل، فأحيانا تتعفن المواد قبل انتهاء تاريخها.
وحول خطة إدارته لمحاربة تجارة المواد منتهية الصلاحية يقول ولد اعلي إنه يوجد ممثل للإدارة في كل مقاطعة وإنها على استعداد دائمـا كما ينص القانون للتعاون مع الأهالي والجمعيات غير الحكومية المهتمة، ولكن عوامل عديدة تؤثر على فاعليتها، منها أن الأسواق مختلطة فلا يمكن رقابة كل الأسواق؛ وكذلك طبيعة تعامل الموريتانيين مع المحلات التجارية تصعب المهمة، إذ إن من يقترض من حانوت لا يمكنه أن يتقدم بشكوى على صاحبه لأسباب يراها أخلاقية".
ومع ذلك يقول ولد اعلي "نحن دولة قانون تحارب كل أشكال الإضرار بالمواطن، وأي شخص ضبط يبيع مواد منتهية الصلاحية سينال جزاءه". ويقر المدير المساعد لإدارة حماية المستهلك وقمع الغش بأن وزارة التجارة لا تمتلك مختبرا لتحليل العينات وتضطر للتعاون مع وزارة الصحة في حال راود الشك مفتشيها حول مادة معينة؛ ويتكفل بدفع رسوم التحليل مالك المادة إن ثبت عدم صلاحيتها.
ورغم محاولات معد التحقيق لقرابة شهرين تحليل عينات من المواد منتهية الصلاحية بالتعاون مع وزارة الصحة، لم يتسنّ إجراء التحليل، إذ لا توجد مختبرات مؤهلة لتحليل المواد الغذائية منتهية الصلاحية لتحديد مدى ضررها على الصحة العامة للموريتانيين، فيما تلجأ الجهات المختصة لمختبرات في السنغال المجاورة أو فرنسا، بحسب مصدر في الوزارة.
فحص العينات في مختبرات دكار
يرى الخليل ولد خيري رئيس الجمعية الموريتانية لحماية المستهلك (منظمة غير حكومية)، أن جهود الجهات الرسمية تبدو عبثية لا تتوقع منها نتائج حقيقية. ويعتبر ولد خيري أن تمثيل إدارة حماية المستهلك في المقاطعات شكلي حيث يقتصر على موظف واحد لا يملك أي وسائل للقيام بالدور المنوط به.
ويشدد الناشط في محاربة تجارة المواد منتهية الصلاحية على أن مختبرات وزارة الصحة التي توكل إليها وزارة التجارة أحيانا مسؤولية فحص وتحليل عينات من المواد المشكوك في غشها؛ لا تملك القدرات التقنية الضرورية للقيام بهذه المهمة وتلجأ دائما إلى مختبرات العاصمة السنغالية دكار أو العاصمة الفرنسية باريس؛ كما أن بعض هذه التحاليل تقدمت الجمعية الموريتانية لحماية المستهلك بطلب إجرائها قبل ثلاث سنوات، وظلت تنتظر حتى إشعار آخر نتائج هذا التحليل.