الصحافيات السودانيات: تهميش فوق تهميش

02 ديسمبر 2014
صحافية سودانية متضامنةمع صحافيي "الجزيرة" في مصر (فرانس برس)
+ الخط -
"المرا لو بقت فاس ما بتشق الراس"... مثلٌ سوداني متداول يُكرّس التقليل من شأن المرأة ودورها في الحياة عموماً في محاولة من المجتمع الذكوري الطاغي لإظهارها كمنكسرة وقليلة الحيلة. والمرأة الصحافية لم تكن بعيدة بأي شكل من الأشكال عن ذاك المفهوم الذي أعقد بتطورها في المجال لسنين عدة، إلى أن نجحت مؤخراً في منافسة الرجل وسحب البساط من تحت قدميه.
ويمثل العام 1947 عاماً فارقاً في حياة الصحافية السودانيّة، إذ مثّل أول دخول للمرأة في مهنة المتاعب بمجلّة متخصصة في شؤون المرأة "بنت الوادي"، لتكون أساساً لانتقالها إلى تجربة الصحافة السياسيّة اليومية والأسبوعية بصفحات أسبوعية تشرف على تحريرها بأسماء حركية؛ لأنّ إيراد اسمها الحقيقي وقتها كان بمثابة وصمة عارٍ تجرُّ عليها وعلى أسرتها العار في مجتمع ينظر للصحافة وقتها كحكر للرجال.
وفي تسلسل زمني بطيء، نجحت الصحافية في اختراق عالم الصحافة. وشهد العام 1999، ميلاد أول رئيس تحرير امرأة لصحيفة سياسية مستقلة، وهي "صحيفة الرأي الاخر"، لتتوالى التجارب بعدها وتتقلّد أكثر من امرأة رئاسة تحرير صحف مستقلة وأخرى قريبة من الحكومة.
ولكنّ هذه التجارب في مجملها لا تعيش أكثر من ثلاثة أعوام، لأسباب تتعلّق بإغلاق الصحف من قبل ناشريها أحياناً، وبسبب الخسارة أو لضعف التوزيع وغياب الإعلان الذي عادة ما تتحكم به الحكومة كسلاح لمعاقبة الصحف.
تجارب ناجحة
آمال عباس، رئيسة تحرير أول جريدة سياسية يومية مستقلة، تعزو السبب الأساسي في تأخّر بروز صحافيات سودانيات إلى تأخّر تعليم البنات بالبلاد في قرن من الزمان، مقارنةً بتعليم الرجال.
وتؤكّد في حديث لـ "العربي الجديد"، أنّ "تجربتها في رئاسة التحرير كانت ناجحة جداً، باعتبار أنّ الجو العام وقتها ساعدها كثيراً، إذ تنفي تعرّضها لأي مضايقات سواء من القُرّاء أو الزملاء في العمل"، مشددةً على أنّ صحيفتها "حققت نسب توزيع عالية وصلت إلى 95 في المائة من المطبوع". لتعود وتؤكّد أنّها "وجدت مضايقات من قبل النظام الحالي الذي حاول تخويفها باعتبارها امرأة". وأوضحت: "تجربتي كانت جيدة جداً ووجدتُ تعاوناً من اصطاف الصحيفة إلى أن تمّت تصفية الصحيفة بعد خلافات بين ناشريها لا علاقة لها بها".
رفض وتأييد ذكوري
أما الصحافي في جريدة "الصحافة"، محمد صديق، فيرفض بقوة قيادة المرأة لأي صحيفة باعتبار أنّ "تجربتها يشوبها الكثير من القصور الناتج عن طبيعة المرأة النفسيّة"! ويوضح: "عادةً داخل كل امرأة نزاع نفسي بشأن انتقاص الآخرين من قدرها، الأمر الذي ينعكس في تعاملها مع من ترأسهم".
ويشدد في حديث لـ "العربي الجديد" على أنّه "عايش تجربة شخصيّةً وصل معها لقناعة ألا يعمل إطلاقاً تحت قيادة امرأة"، قائلاً: "هي عادة ما تميل نحو القرارات غير الموضوعية والتي أساسها إشباع غرورها".
وللمفارقة، يعترف صديق أنّ "الشباب عامة يرفضون فكرة قيادة المرأة لهم بسبب تربية المجتمع"، ويضف: "وعادة الشاب الذي ترأسه امرأة يكون مثار سخرية أصدقائه".
لكنّ الصحافي في جريدة "الأيام" نصر الدين الطيب، يؤكّد أنه "لا يجد غضاضة في أن ترأسه امرأة سواء في الحقل الصحافي أو في مجالات العمل الأخرى"، ويشير إلى أنّه "على قناعة بأنّ التراتبية والخبرات والمؤهلات لا تحكم قضية القيادة سواء للرجل أو المرأة". ويضيف: "عموماً، الصحافيات السودانيّات عملنَ في ظروف بالغة التعقيد داخل المؤسسات الصحافية، وأثبتن جدارةً كبيرةً في المهام التي أوكلت لهنّ، تكاد تفوق في أحيان كثيرة الرجال".
تكاليف باهظة
وترى سامية إبراهيم، وهي مديرة تحرير سابقة لصحيفة "الميدان "، الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، أنّ "النظرة الضيقة للمرأة عادةً ما تقف حائلاً أمام تقدّمها في المواقع القياديّة في الصحيفة". وتؤكد أن "الصحافية عادة ما ينظر لها باعتبارها مكلفة جداً، إذ يلزم تعيننها في مواقع تتطلب البقاء في الصحيفة لأوقات متأخرة من الليل توفير وسائل مواصلات خاصة في ظلّ وضع صحافي سيئ".
وتضيف في حديث لـ "العربي الجديد": "بمعادلة بسيطة، يُفضّل الرجل عليها باعتبار أنه قد يلجأ للمواصلات أو المبيت في الصحيفة". وتؤكد أنّ "تجربتها في الميدان كانت ناجحة، ولم تتعرض لمضايقات من قبل الزملاء"، ولكنها أضافت: "كثيراً ما تستفزني كلمات على شاكلة "انتهي بسرعة علشان ما تتأخري".
أما "ن"، التي ترأست عدداً من الأقسام الصحافية في الجريدة السياسية "ينها الأخبار"، أكدت أنّ تجربتها لم تكن بالجيدة... إذ كانت تلمح في عيون من ترأسهم عدم الثقة في مقدراتها إلى جانب تذمر وعدم تعاون خاصة من قبل الشباب، الأمر الذي قالت إنه أوصلها لقناعة أن البلاد في حاجة لفترات طويلة لقبول المرأة كقائد وإن تظاهر البعض بذلك.
المفهوم التقليدي
الصحافية السودانية، رغم محاولتها الفكاك من القيد المجتمعي الذي يلاحقها حال التأخير لأوقات متأخرة في العمل والسفر، إلا أنها ما زالت تحتاج لمجهود أكبر لكسر السيطرة الذكورية. وتؤكد الباحثة الاجتماعية حنان الجاك أن "السبب في ضعف المواقع القيادية التي تحتلها الصحافيات في الصحف البعد التقليدي في مفهوم التناول الصحافي المميز، وافتقادهنّ لعنصر الدهشة في تفعيل آلية الكتابة".
وترى أن "التعامل بالبعد الدوني للوظيفة الذي تتعامل به الصحافيات مع المهنة يعد سبباً آخر". وتضيف: "عموماً المجتمع الذكوري في العالم العربي ضيق الأفق، ويميل لتقييد إبداعات المرأة والحدّ من تطوّرها وإسهاماتها الفاعلة كقلم مميز يقرأ لها الجميع".
وتؤكد الجاك أن "من المستحيلات تطبيق ميزان العدالة في توزيع المواقع القيادية في الصحف والحياة العملية عامة بين الرجل والمرأة، حتى داخل الأحزاب صاحبة الفكر المتضامن مع المرأة والمقر بحقوقها". وتُرجع ذلك لطبيعة المجتمع الذكوري المعقدة التي لا تقبل بأن تقوده امرأة إلى جانب نظرته السلبية لتطورها، وتردف: "في السودان لا تنفصل المرأة عن الرجل كزوجة وحبيبة؛ لذا فإنّ الرجل يُقيّد إبداعاتها وتطوّرها".
وترى أن الحلول بيد الصحافية نفسها التي يفترض أن تضرب مثلاً في التحرر من القيود المجتمعية والخروج من عباءة الرجل، قائلة "لا بد من التحرر على مستوى الفكر ومعالجة القيود المجتمعية ومناقشتها بصورة عميقة والاستزادة والمعرفة".
رغم الاعتراف بوجود تطور ملحوظ للصحافية السودانية، وتركها بصمات واضحة في الصحافة المحلية، إلا أنّ القيود المجتمعية إلى جانب النظام الحاكم، والذي ضرب مثلاً في إعاقة عمل المرأة في الصحافة كلّها أمور أعاقت تقدمها في المواقع القيادية... إذ كثيراً ما شهدت الصحافة السودانية مؤتمرات صحافية تقتصر على الصحافيين الرجال دون النساء، وسفريات لمسؤولين تقصى منها الصحافيات بدعوى أنهن لا يحتملن المشاق، ورغم كل ذلك ما زالت الصحافية السودانية تحاول بشكلٍ مضنٍ لتجد لها مكاناً يليق بها.
المساهمون