استفتاء على قيس سعيّد أم على دستور جديد؟

31 مايو 2022
+ الخط -

لا أحد في وسعه اليوم أن يجزم إلى أين تبحر السفينة، وفي أي اتجاه تسير الأمور في تونس، وهل سيستجيب التونسيون، وقد خاب أملهم بما وعد به رئيس الجمهورية قيس سعيد، منذ عشرة أشهر، من إصلاحات وبرامج اقتصادية واجتماعية قد تخرجهم من نفق الأزمات المركّبة التي تردّوا فيها، وخصوصا أن الاستشارة الشعبية المنجزة منذ شهرين، قد شهدت فشلا غير معترف به من الرئيس وداعميه، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 5% من مجمل الشعب التونسي.
ومع مضي سعيد في مسار الاستفتاء المقرّر إجراؤه في 25 يوليو/ تموز المقبل، والذي دعا الرئيس في خطوة مفاجئة قبل انقضاء الآجال القانونية الناخبين إلى الاستفتاء على الدستور الجديد لجمهورية جديدة، واضعا الجميع أمام الأمر الواقع، بما في ذلك مكوّنات الهيئات الدستورية ذات العلاقة والمنظمات الوطنية، في مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل وأطياف المجتمع المدني، ناهيك عن الأحزاب الكبرى وأحزاب الموالاة التي أبعدها الرئيس، ويسعى إلى إلغائها تماما من الحياة السياسية.
وقد بدا واضحا، وقد انطلقت الدعوة إلى تسجيل الناخبين، وتبعا لمجريات الأحداث من ردود الفعل، رافضة للحوار من الجهات الوازنة، كالمركزية النقابية وجبهة الخلاص الوطني، وتجمّع "مواطنون ضد الانقلاب"، والأحزاب الديمقراطية أن المشهد قد أصبح مختلفا، ولعل الموازين قد انقلبت فيه ليقف الرئيس وحيدا تحت الضغط العالي، رغم تجاهله كل الدعوات إلى التراجع، ومراجعة شكل الحوار ومضمونه وتاريخ الاستفتاء، وذلك ما يقترحه معارضوه الذين تتسع دوائرهم من ساعة إلى أخرى، وكذلك شقّ من أنصاره على غرار "حركة الشعب" وغيرها. يمضي سعيّد منفردا متكتما متسرّعا في استكمال ما ينتظر الجميع من خطوات لازمة لإنجاح مشروعه السياسي لصياغة دستور جديد للبلاد سيؤسّس لنظامه السياسي ولجمهورية جديدة غائمة المعالم وغامضة المضامين، رغم ورطته مع زملائه، عمداء كليات الحقوق الذين عينهم أعضاء للجنة القانونية من دون استشارتهم التي من المفروض أن تصوغ نص الدستور، بإشراف أستاذ القانون الدستوري المثير للجدل الصادق بلعيد، وبإصدار الأمر الرئاسي المتعلق بدعوة الناخبين لم يعد الدستور الجديد، موضوع الاستفتاء والجدل القائم بشأنه بالنظر إلى مساره وكيفية تقديمه ومضمونه، بل أصبحت مجمل مكونات سياسة سعيّد، وكل خياراته السياسية التي سلكها منذ 25 يوليو/ تموز الماضي هدف الاستفتاء، ليبرز رأس السؤال: هل سيستفتي التونسيون على دستورٍ لا يعلمون مضمونه، أم على شخص الرئيس نفسه الذي وعدهم، فطال صبرُهم، ولم تتبدّل أحوالهم البائسة.

عملية صياغة الدستور لم تنطلق بعد، رغم ما يتداول في الكواليس إن الدستور "جاهز كمسودة"

وزاد التين بلّة صدور الأمر الرئاسي في الجريدة الرسمية بشأن الاستفتاء، وما يعنيه ذلك بالإلزامية القانونية، مؤكّدا أن هذا الاستفتاء سيكون بـ"نعم" و"لا" على سؤال واحد، هل توافق على مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية أم لا؟
ووفق الرزنامة المعلنة، فإن عملية صياغة هذا الدستور لم تنطلق بعد، رغم ما يتداول في الكواليس إن الدستور "جاهز كمسودة"، وأن اللجنة الاستشارية التي عيّن أعضاءها سعيّد هي التي ستقترح مشروع الدستور، ولكنها لن تكون مخوّلة بإقراره وأمام رفض هذه الجهات التي أعلنت مشاركتها، فقد أعلن رئيس اللجنة الصادق بلعيد أن لجنته ستمضي في أشغالها صياغة للدستور "بمن حضر" .
وأمام إلزامية الأمر الواقع وسياسة المرور بالقوة التي يرفعها الرئيس شعارا لنهجه منذ 25 يوليو/ تموز الماضي، فإن ما غاب عنه أو هو يرفض الاستماع إليه، والاعتقاد به، فإن التونسيين نخبا وشرائح شعبية عريضة لا تعتقد قطعا أن حالها المتردي سيتغيّر للأفضل بعد دستور الجمهورية الجديدة، فالدساتير، ومهما كانت عبقرية (وحكمة) واضعيها من الخبراء والمختصين لن تحقق المعجزة وتاريخ تونس الطويل مع دساتيرها العديدة منذ قرطاج إلى دستور 2014 الذي انقلب عليه سعيّد، تشهد على ذلك، إذ طالما حضرت النصوص والفصول ويظل تفعيلها حبرا على ورق في غياب منوال تنمية جديد وخطط إنقاذ وإصلاح للدولة ومؤسساتها وقد أصبحت اليوم معطوبة صدئة وعاجزة تماما عن إنجاز الأفضل المطلوب والذي وعد به الرئيس، إذ لم تشهد حكومة "السيدة بودن"، التي هي حكومة الرئيس أساسا، فعلا في الواقع بدّل وضع التونسيين أو ساهم في تبدل معيشتهم. وهنا يكون من الغباء المطلق الإقرار بأن دعوة الناخبين إلى الاستفتاء على الدستور الجديد بـ"نعم" و"لا" سيشكل فعلا منعرجا تاريخيا بين وضعين، وبإخراج التونسيين من السيئ إلى الأحسن، ذلك أن هذه المحطة ستكون، كما أسلفنا، استفتاءً على شخص قيس سعيد لا غير.

يظلّ عنصر المفاجأة قائما جدا، وخصوصا أن سعيّد بدا فاقدا للأسبقية في اللعبة السياسية، مانحا بأخطائه القاتلة الفرصة تلو الأخرى لقوى سياسية

المتوقع أن يكون سعيّد ومعاركه المزعومة مع منظومة ما قبل 25 يوليو/ تموز ومدوّنة اتهاماته لهذه المنظومة التي شملت الأحزاب والشخصيات الوطنية والأطياف المدنية في ما أصبح معلوما من سرديات الفساد وتفقير الشعب ونهب ثروات البلاد ستكون كلها موضوعا للحملة الانتخابية التي ستسبق يوم الاستفتاء. ولافتٌ أن سعيّد والسلطة التي يقودها يمضون في الاعتقاد أن التونسيين سيصوّتون بالموافقة على هذا الدستور، فلا يتوقع سعيّد وأنصاره العكس، أي فرضية ما يمكن أن يحصل لو حسم الشعب موقفه برفض مشروع الدستور. وهو سيناريو عقلاني ممكن الحدوث في كل الاستحقاقات الانتخابية، ومع كل استفتاء. ويظلّ عنصر المفاجأة قائما جدا، وخصوصا أن سعيّد بدا فاقدا للأسبقية في اللعبة السياسية، مانحا بأخطائه القاتلة الفرصة تلو الأخرى لقوى سياسية واجتماعية ومدنية وإعلامية في الداخل والخارج، للتشكيك في مساره. وبوصفه بالسوريالي والعبثي، وبرفضه دعوات إلى التراجع والمراجعة يخيم على المشهد غموض مخيف بشأن مآلات هذا الاستفتاء، وافق عليه التونسيون أم رفضوه، لتجد البلاد نفسها أمام سيناريوهين، احلامهما مرّ: ففي حال الموافقة، واعتمد الدستور ومضمونه نظاما جديدا لمشروع سعيّد وجمهوريته القاعدية، هل ما زالت تونس تتحمّل مغامرة سياسية جديدة، هي خليط بين الشعبوية والجماهيرية، جرّبت في الجارة الشرقية، فكانت نتائجها كارثية. أما إذا سقط الاستفتاء ورفضه التونسيون، هل سيقبل الرئيس سعيّد العودة إلى ما قبل 25 يوليو/ تموز لمسار الانتقال الديمقراطي ومكوناته من برلمان ودستور وهيئات شرعية، وذلك ما لا يقبله الرجل الذي يرفض كل عودة إلى الوراء، وهو ما سيضعه مرغما في الطريق الشرعي والملزم إلى الاستقالة .. كل الاحتمالات تظلّ قائمة، لتبقى الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت في تونس.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي