التلاعب بالألفاظ وقلب المبادئ

06 نوفمبر 2023
+ الخط -

دائماً، كانت جولات الصراع بين العرب وإسرائيل تقدّم نماذج للتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، واستخدام خطابٍ مخاتلٍ يحمل رسائل مغلوطة ومفاهيم مُجتزأة، ضمن أنماط وأدوات متعدّدة لحرب العقول والقلوب.
في الماضي، كانت إسرائيل تطلق وصف "انتحاري" على من كان العرب والفلسطينيون يسمونهم فدائيين. ومع ظهور مصطلحات سياسية تجسّد الفجوة الفكرية والعقائدية بين العرب والمسلمين في جانب والعالم الغربي في الجانب المقابل، بدأت تعبيرات من شاكلة "الإرهاب".. العنف".. "التطرّف" تستخدم بكثافة، وتطيح الأوصاف المحايدة التي تسمّي الأشياء بأسمائها. فصار كل من يستخدم القوة للدفاع عن أرضه أو سيادته أو عقيدته "إرهابيا"، حتى إذا كان المستهدف عسكرياً وليس مدنياً. وتحوّل المتمسّك بأفكاره "متطرّفا"، مهما كانت أفكاره تلك سلمية أو كان هو منفتحاً على الآخر ومتعايشاً معه.
في حرب غزّة الجارية، بنت إسرائيل سرديتها على أساس أنها تعرّضت لهجوم إرهابي وحشي استهدف المدنيين، فاقتطعت عملية طوفان الأقصى من سياقها التاريخي والموضوعي. وأغفلت أن أي عمل يقوم به الفلسطينيون يكون ردّ فعل على أعمالٍ وممارساتٍ اضطهاديةٍ بحقّهم تستمرّ أعواماً، ولا تتراجع عنها تل أبيب أو تخفّفها، فيكون الانفجار في عملية مسلّحة للمقاومة، بل وأحيانا في أعمال فردية غير منظّمة يبادر إليها فلسطيني مدني ليس منخرطاً في تنظيم ولا ينتمي إلى فصيل مسلح.
ومن البداية المغلوطة، جاء ادّعاء أن السلوك الإسرائيلي الإجرامي ليس إلّا "دفاعاً عن النفس" أمام هجوم بربري، حسب ما وصفه مسؤولون رفيعو المستوى في الغرب، بل وفي بعض دولنا العربية أيضاً! رغم أن الغرب يعي جيداً أن مبدأ الدفاع عن النفس ينصرف إلى العكس تماماً مما تفعله إسرائيل، فهو يجب أن يكون ردّ فعل، وليس جزءاً من نهج متواصل من الاستهداف والاضطهاد والتنكيل النظامي على كل المستويات وبشتّى الأشكال، وأن يكون دفاعاً عن النفس في مواجهة هجوم غير مبرّر وبلا أساسٍ من الحقّ أو المنطق، أو بلا أي حجّية قانونية أو أخلاقية. 
لقد أسقطت إسرائيل، ومن بعدها معظم الدول الغربية، مبادئ ومفاهيم أخرى، هي الأجدر بالتطبيق في حالة غزّة وعلى مجمل تطوّرات القضية الفلسطينية. أولها الحقّ المشروع والمعترف به في مقاومة الاحتلال، بما في ذلك باستخدام القوة المسلحة. بل إن هذا الحق هو الحالة الوحيدة الاستثنائية من حصر امتلاك (واستخدام) السلاح في الجيوش النظامية وسلطات الدول. لكن إسرائيل نجحت في استدراج الإعلام الغربي، وكذلك بعض الدوائر الرسمية، إلى رفع صفة المقاومة، ليس فقط عن حركة حماس، بل كذلك عن كل فصائل المقاومة. وليس في فلسطين فقط، وإنما في كل مكان. فإذا تعرّض جنود إسرائيليون للقنص أو الخطف على حدود لبنان فهو إرهاب، وكذلك الأمر إذا انطلقت قذيفة من داخل سيناء، أو أطلق صاروخ ولو بدائيا من الأرض المحتلة أو طلقة رصاص من الجولان، فهذا كله إرهاب، حتى وإن استهدف العسكريين حصراً. بينما يعلم العالم كله أن سكان إسرائيل كلهم جنود، إما في الخدمة أو في الاحتياط تحت الاستدعاء.
وبالطبع، تنطلق تلك المغالطات مبدئياً من إنكار حقيقة دامغة، تاريخياً وقانونياً، أن إسرائيل "دولة احتلال". ورغم ما في تلك الحقيقة من أسىً وقسوة، إذ إنها النموذج الوحيد المتبقّي للاحتلال التقليدي بوجهه القبيح، إلا أن العالم يتغافل عنها ويتناسى أن تلك الحقيقة البشعة تفرض على دول الاحتلال مسؤولياتٍ وواجباتٍ لا يمكن التنصّل منها.
وللأسف، جُل الخطاب السياسي والإعلامي العربي يجاري هذه المغالطات، وينساق وراء تزييف الحقائق وخلط المفاهيم، بل ويساعد على إسقاط قيم ومبادئ وإهدار حقوق أساسية، يجب الإصرار على تذكير العالم بها.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.