"السكّان" حجّة البليد
شهدت مصر قبل أيام فعالية رسمية بعنوان "المؤتمر العالمي للصحّة والسكّان والتنمية". وكان واضحاً من اللحظات الأولى أن الغاية النهائية للحدث فتح ملفّ زيادة السكّان مجدّداً، وإحياء التوجهات الرسمية القديمة نحو تطبيق سياسات وإجراءات للحدّ من النمو السكاني. لكن المسؤولين والمشاركين في المؤتمر لم يأتوا بجديدٍ يُذكر، لا في ما يتعلّق برصد الواقع وتسجيل المعدّلات العالية للزيادة السكانية، ولا بشأن تداعياتها التي يصوّرها المسؤولون المصريون دائماً تهديدات ومخاطر، وبالطبع ولا في الخطوات المطلوبة لمعالجة هذه القضية.
منذ أكثر من 40 عاماً، تحديداً مع توجّه السياسة المصرية إلى التقارب مع الولايات المتحدة على أيدي الرئيس الراحل أنور السادات، وجدت قضية السكّان مكاناً ثابتاً وأساسياً على أجندة الحكومات المتعاقبة في مصر، فباستثناء حكومة هشام قنديل في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي (لم يستمرّ سوى عام رئيساً بلا سلطة)، ما من حكومة مصرية إلا واعتبرت الزيادة السكانية مصدر خطرٍ وتهديد. ولم تفكّر أي حكومة في إمكانية تحويل النموّ السكاني إلى مصدر قوة ولتنمية موارد الدولة، عبر توظيف (واستثمار) ذلك المورد الأصلي الأهم وهو السكان.
ورغم ثبوت فشل هذا المنطق طوال تلك العقود، تكرّر السلطة المصرية الحالية التوجّه ذاته بلا أي تعديل، وتنطلق في ذلك من المغالطات المنطقية نفسها، فلا ترى في الزخم السكاني سوى الجانب الاستهلاكي للموارد، وتتجاهل أن السكان هم المورد الأساس والوحيد الذي بإمكانه زيادة الموارد الأخرى وتعظيم الاستفادة منها. وهو ما تقوم به كل الدول، بما فيها التي طبقت سابقاً إجراءات تنظيمية للإنجاب، وأبرزها الصين، فقد عادت تبحث عن الزيادة السكانية وتحثّ مواطنيها على الإنجاب.
المغالطة الثانية في إدارة الحكومات المصرية هذا الملف أنها تنطلق من فرضية خاطئة، مفادها استهلاك السكان كل الموارد، وبالتالي وقف عجلة التنمية والتهام مصادر الدخل. بينما الحقيقة أن عجلة التنمية متعطّلة لأسباب أخرى، أهمها سوء الإدارة وضيق أفق القائمين على إدارة الدولة، إذ لا شيء لديهم إلا البنية التحتية، بل جانب واحد منها وهو الطرق. وعدا ذلك، لا مصانع جديدة ولا استثمارات خدمية أو تجارية ولا حتى توسّع في الزراعة واستصلاح الأراضي. وكل هذه المجالات المستبعدة كفيلة باستيعاب ملايين وامتصاص نسبة البطالة المرتفعة، فضلاً عن توليد ناتج قومي صناعي أو زراعي أو خدمي، وبالتالي مصادر دخول جديدة للمواطنين وللدولة ككل.
ثمّة مغالطة ثالثة في التعاطي الحكومي العقيم مع قضية السكان، تحميل المواطنين أنفسهم مسؤولية التردّي الحاصل في مختلف القطاعات، خصوصاً الخدمية. كأن زيادة السكان السبب الوحيد وراء انهيار التعليم وتردّي قطاع الصحة والخواء الثقافي والتسطّح الإعلامي. بينما يكاد الواقع ينطق أن الخلل في التعليم والصحة لا يرجع إلى تضخّم أعداد المستفيدين بقدر ما يعود أساساً إلى تراجع مستوى الخدمة المقدّمة نفسها، نوعاً وكمّاً. بدليل وجود أعداد كبيرة من المؤهلين لممارسة مهنة "المعلّم". ولكن لا يتم توظيفهم للعجز المزمن عن الوفاء برواتبهم، وهو ما ينطبق بالطبع على المعلمين الحاليين الذين يعانون من تدنّي الرواتب، بما ينعكس سلباً على أدائهم الوظيفي. وكذلك الأمر بالنسبة للأطباء، وكل من يعمل في الخدمات الأساسية.
أما الثقافة والإعلام والذوق العام والوعي المجتمعي وغير ذلك من الخصائص الحضارية للشعوب والمقوّمات المعنوية للدول، فأي اختلالٍ فيها مسؤولية مباشرة وحصرية للسلطة ومؤسّسات الدولة، فهي التي تصوغ الرؤية والرسالة وتضع الأهداف. وبناء على ذلك كله، تتحكّم في المحتوى.
التذرّع بزيادة السكان تهرّب مكشوف من مسؤولية الفشل والإخفاق في كل المجالات، وحجّة بليدٍ لا يعرف كيف ينجح ولا حتى يعترف بفشله.