المغرب والجزائر .. توازن الرعب في ‬المنعطف الكبير

20 يوليو 2021
+ الخط -

بعد قرابة ‬نصف قرن من النزاع في ‬الصحراء، في ‬مواجهة دينامية ثابتة من أجل انفصالها عن المغرب، ‬من طرف الجزائر، ‬وصلت المنطقة إلى ‬توازن الرعب الذي ‬تهيأت كل شروطه، ‬وذلك بأن صرح سفير المغرب لدى الأمم المتحدة، ‬عمر هلال‬، ‬في ‬ردّه على وزير الخارجية الجزائري ‬المعين حديثا، رمطان لعمامرة، ‬إن "الشعب القبائلي ‬البطل الذي ‬يعاني ‬من أطول احتلال أجنبي ‬يستحق أن ‬يتمتع هو أيضا بتقرير مصيره". وهي ‬المرة الأولى التي ‬يرفع فيه المغرب ضرورة تمتيع منطقة من مناطق الجزائر بحق تقرير المصير، ‬فيما ‬يعمل النظام في الجزائر، منذ ‬46 ‬سنة‬، بلا كلل ولا ملل، من أجل أن يتمتع بهذا ما تسميه الشعب الصحراوي ‬في ‬مناطق الساقية الحمراء ووادي ‬الذهب، ‬جنوب المغرب.‬ وقد اختار المغرب منطقة "‬القبايل" ‬التي ‬أعلنت بعض نخبتها ‬ميلاد جمهورية فيها‬، ‬سيما "حركة استقلال القبايل" التي ‬أعلنتها الجزائر منظمة إرهابية. ‬وهي ‬منطقة ‬ذات طبيعة متميزة، ‬وتحتضن حركة عميقة وواسعة من رفض السلطات والنظام المركزيين.‬
وقد كان للموقف المغربي ‬الجديد ‬دوي ‬الرعد في ‬سماء ‬غائمة!‬ وكان سفير المغرب في الأمم المتحدة ‬يعرف أنه وضع هنا ‬تحولا جذريا في ‬سياسة بلاده، ‬وثوابته التي ‬اهتدت بها دبلوماسيته منذ الاستقلال، فالرباط لم تعلن أبدا دعمها أية حركة استقلالية، ‬أو حركة انفصال، ‬كما فعلت الجزائر معه.‬ ولم تساند ‬أية حركة انفصال في ‬أوروبا، ‬أو ‬غيرها، ‬لقناعاتها المعلنة دوما برفض زجّ دبلوماسيتها في ‬لعبة من هذا القبيل.‬

التصعيد الجزائري ‬بدأ منذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، ‬بالتهديد ‬الجيو - استراتيجي ‬تارّة، ‬وبالتلويح بالحرب الساخنة تارّات عديدة

وقد سبق للمغرب، ‬في ‬عز أزمته مع إسبانيا، أن صرّح أن الرباط رفضت دوما "‬استقبال الانفصاليين الكاتالانيين"، على الرغم من إغراء استعمال هذه الورقة في ‬وجه إسبانيا المتردّدة حينا في ‬دعم مشروعية المغرب الترابية، ‬والعاملة أحيانا كثيرة على تقويضها.‬ ولقد سرى تيار من الدهشة داخل المغرب وخارجه، ‬كما سرت موجة من الدفاع في ‬أوساط كثيرة من النخبة وعموم الشعب المغربي، من فرض ما سئم المغاربة مما اعتبروه "‬طيبوبة بلادهم" ‬مع نظام جاحد، ‬وسئموا من تعقل ورزانة ‬غير مجديين، ‬مقابل نظام جعل من محاربة المغرب ثابتا وطنيا من ثوابته الوجودية، ‬عبر تقديم الدعم المالي ‬واللوجيستيكي ‬والدبلوماسي، ‬قارّيا ودوليا لما ‬تسميها الجمهورية العربية الصحراوية!‬
ما زال التساؤل ‬قائما، ‬وسيظل قائما في ‬ما سيتواتر من الأيام: ‬ما الذي ‬جرى حتى كسر المغرب ثابتا من ثوابته الدبلوماسية والسياسية في ‬غرب المتوسط، ‬وفي ‬العالم؟ أول نقطة في ‬الشطط الطويل الذي ‬يستوجبه الجواب أن ردّ السفير عمر هلال كان مرتبطا بسياقه، ‬المتعلق بمؤتمر حركة عدم الانحياز، ‬ففي ‬هذا اللقاء ارتأى وزير الخارجية الجزائري ‬أن موضوعه المفضل، ‬وهو الدفاع عن استقلال الصحراء المغربية، ‬لا بد من ‬أن يُقحم في ‬جدول أعمال لم ‬يكن واردا فيه أصلا!‬ الأمر الذي ‬استوجب قوة الرد المغربي ‬على هذا الوزير الذي "‬ينصب نفسه كمدافع شرس عن حق تقرير المصير"، و"‬يرفض تخويل هذا الحق نفسه للشعب القبائلي، ‬أحد أقدم الشعوب في ‬إفريقيا، ‬والذي ‬عانى من أطول احتلال أجنبي".‬ فقرة كانت بوزن قنبلة نووية‬، ‬لكنها جاءت في ‬نقطة عالية من التصعيد الذي ‬يرى المغرب أن الجار الشرقي ‬له دخل فيه ‬منذ فترة!
والواقع أن التصعيد الجزائري ‬بدأ منذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، ‬بالتهديد ‬الجيو - استراتيجي ‬تارة، ‬وبالتلويح بالحرب الساخنة تارات عديدة، ‬وقد وصلت ‬إحدى نوبات التصعيد ‬مع صحيفة "الجيش" ‬التابعة للمؤسسة العسكرية، ‬قطب النظام، ‬درجة قريبة من السوريالية، ‬إذ ذهبت الصحيفة ‬في ‬تأصيل العداوة بين الشعبين إلى ما قبل الميلاد، ‬إذ اعتبرت أن المغاربة خانوا الحاكم الأمازيغي، ‬يوغارطا ‬في ‬160 ‬ق. م!‬

الشعب الصحراوي، ‬في ‬تقدير الخطاب الرسمي ‬الجزائري، ‬هو أقدم شعوب إفريقيا، ‬وأن المغرب ‬بلد محتل، ‬وأن على الرباط منحه تقرير مصيره

وموقف المغرب من خلال ‬عمر هلال يعد ‬تحولا جذريا في ‬عقيدة المغرب الدبلوماسية، ولعل من المفارقات التي ‬لم ‬يتم تبينها، ‬بسبب الصدمة أو الضجيج الذي ‬أحدثه موقف المغرب الأممي، ‬أن التحول تم بمواد الخطاب الجزائري نفسها، ‬فالتعابير التي ‬استعملها السفير المغربي ‬هي ‬التي ‬تستعملها الجزائر ضد المغرب منذ نصف قرن، فالشعب الصحراوي، ‬في ‬تقدير الخطاب الرسمي ‬الجزائري، ‬هو أقدم شعوب إفريقيا، ‬وأن المغرب ‬بلد محتل، ‬وأن على الرباط منحه تقرير مصيره، ‬فلا ‬يخلو خطابٌ من خطب النظاميين الجزائريين من وصف المغرب ‬بالمحتل!‬
ويدخل التحوّل أيضا في ‬منظومة ‬جديدة ‬أصبحت الدبلوماسية المغربية تستهدي ‬بها، وفي ‬صلبها إسقاط أي ‬محرّم (تابو)، ‬دأبت الرباط على احترام مقاصده، ‬حتى ‬ولو كان ‬يحمل ‬إزعاجا لمصالح البلاد الحيوية. ‬ولعل الذي ‬انتبه إليه كثيرون، ‬في ‬هذا الإبدال الجديد هو المجاهرة بمواقف الندّية عندما ‬يتعلق الأمر بالقوى العظمى، ‬كما فعل مع ألمانيا وإسبانيا، ‬وقبلهما فرنسا وأميركا باراك أوباما، حتى أن جزءا من الرأي ‬العام ‬المغربي ‬فوجئ‬، ‬بداية، بهذه "‬المغامرة"‬، ‬أو استبدّ الفزع في ‬أوساط واسعة منه ‬إلى أن أعادت الدول المعنية كثيرا من مسلّماتها على ضوء مواقفه.‬ ‬وحاليا، ‬نرى أن إسبانيا هي ‬التي ‬دفعت الثمن في ‬عداوتها أخيرا باستقبال زعيم الانفصاليين في ‬دارها، ‬وكانت النتيجة أن انتقلت الأزمة مع المغرب ‬إلى حقلها السياسي ‬المؤسساتي، ‬وأدّت إلى ‬تنحية وزيرة الخارجية التي ‬تسبّبت في ‬الأزمة، ‬وتغييرها برجلٍ لا ‬يخفي ‬قرابته مع المغرب.‬ المعطى الثاني ‬الذي ‬لا ‬يجب أن ‬يسقط من شبكة قراءة التحول في ‬الدبلوماسية المغربية ‬هو ‬إعادة ‬ترتيب العلاقات مع دولٍ كان التاريخ الدبلوماسي ‬بينها وبين الرباط يستوجب العداء الكبير تجاهها، ‬وهي ‬دولٌ تنتمي ‬إلى قوس عالمي ‬يبدأ من كوبا‬، ‬وصولا إلى نيجيريا، مرورا بدول إفريقية عديدة كانت في ‬صف خصومه، ‬ومنها إثيوبيا ‬التي ‬احتضنت قمة منظمة الوحدة الإفريقية وقتها، ‬قبول دولة الانفصال (بوليساريو) في ‬ثمانينيات القرن الماضي.‬ ويتمثل ‬التحول الثالث في ‬إعادة ترتيب الشراكات الاستراتيجية بناء على المصالح، وبمنطق الدول نفسها التي ‬تتصرّف بناء على مصالحها.‬ وقد توطدت المعادلة مع شراكاتٍ ‬حديثة مع الصين وروسيا بوتين، على الرغم من التحالف الوطيد والعميق والقوي ‬مع الولايات المتحدة.

‬تدرك الجزائر، قبل ‬غيرها، قوة الورقة الانفصالية في ‬عرقلة نمو الدول وتقدّمها، ‬وتعرف كلفتها بالنسبة لمن تُستعمل ضده

‬والواضح، ‬كما ‬يحب المغاربة التعليق على ‬موقف بلادهم، أن المغرب لم ‬يعد ‬يقبل أن ‬يكون ضحية أخلاقياته، ولا أن ‬يكون ضحية ازدواجية دولية مقيتة تعترف له بمزايا كثيرة، وتسقط عنه حقه في ‬وحدته الترابية والوطنية. ‬ولقد خلف الموقف الرسمي ‬قراءات متعددة في ‬الداخل، كما اهتزت الجزائر عميقا ‬لهذا الموقف الجديد. ‬وهي ‬التي ‬تدرك، قبل ‬غيرها، قوة الورقة الانفصالية في ‬عرقلة نمو الدول وتقدّمها، ‬وتعرف كلفتها بالنسبة لمن تُستعمل ضده، ‬وهي تقدّر معنى توازن الرعب ‬الذي ‬ساد في ‬فترات الحرب الباردة، ‬باعتبار أن ‬قضية الصحراء المغربية ‬ذاتها تعود إلى تلك الفترة، ‬مع ارتفاع في ‬درجة حرارة الحرب حاضرا! ‬
يأخذ توازن الرعب هنا ‬شكل توازي ‬الأشكال السياسية في ‬الصراع، ‬وستدخل المنطقة مرحلة جديدة سلبا أو إيجابا. ‬وفي ‬أحسن الحالات، ستقود الجزائر إلى إعادة النظر في ‬جوارها السياسي ‬مع المغرب، ‬وفي ‬أسوأها إلى تجاوز توازن الرعب الدبلوماسي، كما عرفته الحرب الباردة، ‬إلى شروط ساخنة مفتوحة على ‬كل الاحتمالات، بما فيها الحرب.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.