"الوعي الفلسطيني" في الدول المغاربية

17 ديسمبر 2023

آلاف المغاربة في مظاهرة بالدار البيضاء تضامنا مع الفلسطينيين في غزة (29/10/2023/فرانس برس)

+ الخط -

للقضية الفلسطينية رمزية كبيرة في مختلف الدول المغاربية، وللجغرافيا الدور الطبيعي الذي جعل الحدود حواجز مختلفة تمنع الاتصال المباشر أو تجعله صعبا، ويزيد ذلك اختلافا، وأحيانا فرقة، أن النظم السياسية القائمة بناء على الاختيارات التي ترسمها لتطوّرها وتطوّر مجتمعاتها، جعلت كل أشكال الاتصال والتفاعل مشروطةً بكل ما يحدّ، أو يمنع، التواصل الإنساني في أحيانٍ كثيرة.

ولا تعود رمزية القضية الفلسطينية في الدول المغاربية، كما يفهمها كثيرون، أو يقرّرها، بيقين ديني صارم، بعض الحركيين الإسلاميين، إلى البعد العربي - الإسلامي الذي يعدّ حقّا، استنادا إلى العقيدة واللغة والثقافة والتاريخ المشترك، وشيجة كبرى تؤلف تأليفا عاطفيا بين المشايعين والقضايا التي يشايعونها أو يساندونها على الصعيد العربي بعامة، بل إلى أمور أخرى، لعلها فرعية من زاوية المنظور، ترتبط، من حيث التصوّر، بالفكر وبالأيديولوجيا وبالقيم ذات البعد الحركي المستمدّة من تجارب العمل الإنساني عبر التاريخ في مواجهة الظلم والاستعباد والإقصاء والعدوان... إلخ. أي مجموع ما صيغ على مراحل انطلاقا من أوضاع معيّنة، بدوافع مختلفة، وتحسّبا لتحوّلات ممكنة، فأصبح بمثابة شرائع إنسانية (هيومانية) لها ذكر في القوانين والدساتير. ويمكن التأكيد على أن تلك الشرائع أصبحت جزءا من الثقافات العصرية التي تتحدّد بها المعاملات، وتُعلن المواقف، وتتبلور العواطف السياسية وغير السياسية، في علاقة بقضايا وموضوعات كثيرة، فضلا عن التطوّرات اللصيقة بحركية المجتمعات.

قصدي من هذا إبراز الطابع الخاص الذي اكتسته القضية الفلسطينية في أيديولوجية اليسار في أكثر من دولة مغاربية. وهو الطابع الذي جاء متناقضا، في جوانب منه على الأقل، مع الطرح التقليدي الذي جعل من الرابطة الإسلامية، أو العربية القومية المطلقة، أساس الاهتمام أو الدعم أو المساندة... هذا مع الاعتراف، بطبيعة الحال، بأن الشعور الإسلامي والعروبي، في دول مغاربية كثيرة، كان عنصرا شعبيا مؤكّدا في الاهتمام والدعم والمساندة والتبرّع بالغالي والنفيس في سبيل قضية ملكت شعور المؤمنين بغيرهم، وألهبت عواطفهم بصورة تلقائية في أحيان كثيرة، أي من دون تدبّر عقلاني ولا تفكير منطقي ولا فهم سياسي نقدي كذلك... مجرّد ارتباط عاطفي في معظم الأحيان، له قوّته المعنوية المؤكّدة، ولكنه لا يتجاوز ذلك إلى بناء الرابطة الحقيقية التي تبنى عادة على أسسٍ مادّية قد تتبلور في اتفاقاتٍ ذات بعد "مصيري".

كانت القضية الفلسطينية مبرّرا واضحا للانخراط في معمعان النضال السياسي لمواجهة الأوضاع القائمة، والمطبوعة عموما بالتدهور الاقتصادي، والقمع السياسي

ويبدو أن مرحلة الاستقلالات الوطنية، انطلاقا من الابتعاث الذي أحدثه الفكر القومي العروبي في الثقافة السياسية، وفي أشكال الممارسة النضالية، قاد في مواقع كثيرة إلى تحوّلات كبيرة غيّرت نظما، وربما أنساقا، ظلت فترة طويلة متحجّرة أو جامدة في حالات من التخلف الفكري المرتبط بطابع (ووضعية) المجتمعات التقليدية ما قبل الرأسمالية. وأضيف إلى هذا أنها أوجبت، من دون شك، أيديولوجياتٍ حديثة مستنبتة بفعل التأثير الفكري الذي مارسته الأحزاب الشيوعية والقومية في كثير منها منذ العشرينيات من القرن الماضي.

فكان الباعث، في هذا السياق، للاهتمام بالقضية الفلسطينية أنها أصبحت، قبل التقسيم وبعده، في مركز الاهتمام العربي بوصفها قضية تحرّر من الاحتلال الإسرائيلي وما نتج عنها وعن غيرها من تقتيل وتهجير. وبالمثل، أمكن لبعض الدول العربية (الطليعية)، التي بشّرت بالوحدة والتحرّر والاشتراكية (العربية) منذ مطالع الستينيات من القرن الماضي، أن تجعل القضية الفلسطينية ضمن الاستراتيجية التحرّرية (ومن ذلك إسقاط الإمامة في اليمن) التي كانت تعمل بهديها، وتناضل من أجل المهام المطروحة فيها. ولم تتحرّر الرؤية الأيديولوجية من ثقل هذه المهمة، رغم النكسة التي تعرّضت لها الوحدة بين مصر وسورية، إلا عندما استفاقت تلك الدول على الهزيمة المدوّية... لأنها أسقطت، في وقت وجيز تماما، مختلف الأماني الوطنية والقومية في الوحل، ثم قضت عليها قضاءً مُبرما عندما ظهرت قوى جديدة نابعة من تصوّرات "النقد والنقد الذاتي" الذي مورس، في أحيان كثيرة، بنوع من التشفي الذي لا يساعد على وضوح الرؤية، ولا على اصطفاء المهامّ الواجبة على جميع المستويات، وعلى ضوء اختيارات جديدة تمليها التحولات الجارية.

القضية الفلسطينية، في دائرة الفكر القومي العروبي أصلا، أحدثت نوعا من التحوّل الفكري والأيديولوجي

ملاحظتي الأولى، في هذا التصور، أن القضية الفلسطينية، في دائرة الفكر القومي العروبي أصلا، أحدثت نوعا من التحوّل الفكري والأيديولوجي الذي أصبح يخترق بنياتٍ، ويؤلف بين توجّهات، ويختار أنماطا من السلوك والعمل "لترسيم" وجوده في المجال العربي بعامة، وفي الدول المغاربية رغم بعدها عن المواجهة المباشرة بشكل خاص. وكان في ظهور ما سُمي "اليسار الجديد"، المكوّن غالبا من فئات تعليمية وشبابية طامحة، من خلال النقد الجذري النظري لمختلف الأطروحات التي عمّرت في الساحة العربية اعتمادا على المقولة الأليفة "لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية"، الأثر البارز، وإنْ في نطاق ضيّق مع ذلك، الذي جعل القضية الفلسطينية نظريا في صلب العمل الوطني الثوري، وفي حركاتٍ كثيرة بمثابة المرجع الأيديولوجي الذي وجد المناضلون، في الإحالة عليه لتقوية نضالهم الرامي إلى توعية "الجماهير" وقيادتها نحو الثورة المأمولة، أسلوبا جديدا ومناسبا في التوعية والإقناع، وكذا منجما ثرّا من الأفكار والتصوّرات والأوهام كذلك.

والواقع أن جيلا كاملا في مختلف الدول المغاربية أصبح يحيل عن وعي، أو بحثا عن مصدر يغذّي به شرعية ما، على الهزيمة (1967) كمنطلق لوعيه بثلاثة أمور مترابطة: أولا، وعيه بأنه يحقّق بذلك اختلافا مرجعيا يميّزه عن غيره، وهو في السياسة تمييزٌ له عن الأحزاب التقليدية، وطنية وقومية في الغالب، التي أصبحت بالنسبة إليه جزءا من الهزيمة المنتقدة. ثانيا، ارتباطه بمرجع أيديولوجي يتوافق مع التسمية التي اختارها لحركته (اليسار الجديد، اليسار الراديكالي، الحركة الماركسية اللينينية... إلخ)، وكان له في ذلك ما رأى فيه النقلة النوعية التي أخرجت الفكر السياسي العربي عموما من المظانّ "الإصلاحية" و"التحريفية"، وألقت به في مهبّ الرياح الثورية... التي كانت تهبّ على بلدانٍ كثيرة في أوربا وآسيا وأفريقيا. ثالثا، ثم هذا الأمر الذي وجد فيه تاريخا لانطلاقه، وأسلوبا لخروجه العلني إلى ساحة النضال، وتعلقه بالأممية الشيوعية، وارتباطه الخاص بحركة النضال الوطني.. الذي كان محجوزا في بلدان مغاربية كثيرة. كانت القضية الفلسطينية مبرّرا واضحا للانخراط في معمعان النضال السياسي لمواجهة الأوضاع القائمة، والمطبوعة عموما بالتدهور الاقتصادي، والقمع السياسي، ومختلف ألوان المحافظة التي شكّلت وكرّست ذهنيات شعبية متخلفة. والأهم من هذا وذاك العمل الثوري، الحالم أيضا، لمواجهة "الدولة الوطنية" التي، حسب منطلقات الفكر اليساري، فشلت كـ"بورجوازية للدولة" في إنجار مهام التحرر الوطني أيضا.

فالانتقال التدريجي، من خلال الصدمات المتكرّرة، من منطلقات الفكر العروبي القومي إلى مستوى آخر من الاعتقادات الفكرية، لم يصاحبه، في الواقع، أيٌّ من مستويات التحوّل على صعيد المجتمعات المغاربية وفي بنياتها المؤثرة في التطوّر. كما أن الذهنيات السائدة، وهي في معظمها نابعة من الفكر الديني وتصوّراته المطلقة، بقيت على حالها من التحجّر لم تستسلم مطلقا للتصوّرات الجديدة التي عرضها اليسار عن الثورة.. وكذلك عن القضية الفلسطينية من الزاوية التي عُرِضَت بها في تناقضٍ من التصوّرات الأخرى، وكذا مع "الإسلاموية" التي أفلحت في الإبقاء على ارتباطها التقليدي بالقضية بطريقة عاطفية مضمونة.

التصوّر اليساري الداعم للقضية الفلسطينية أصيب، بالتداعي، بالإحباطات نفسها التي كانت تصيب جسم الثورة الفلسطينية

فعملية استنبات الفكر الجديد ظلّت خارج التاريخ الفعلي لأمريْن متلازميْن: النضال السياسي، لأنها لم تندرج في حركته بوصفه قوة فعلية مسنودة بالأدوات الثورية الفعلية والفعّالة في التغيير، وربما كان من المستحيل أن يكون لها ذلك في مختلف المجتمعات، بالنظر إلى تركيبها الطبقي، وتعارض بعض اختياراتها مع بنية التديّن في المجتمعات التي أرادت تغييرها. والأمر الثاني، عزلتها عن جماهير تلك المجتمعات التي جاءت للفعل فيها ولتغييرها بفكر جديد كانت علامته الفلسطينية التحرّرية محكومة، هي ذاتها، بعوامل أخرى لها صلة بالقضية الفلسطينية نفسها، لا بالأوضاع القائمة في الدول المغاربية.

ويمكن القول، من دون تردّد، إن السلطات الحاكمة في الدول المغاربية هي التي استوعبت الوضع بصورة أقوى، من حيث دَعَمَّت القضية الفلسطينية (والأجنحة المُنَظَّمَة التي كانت أقرب إلى توجهاتها) بمختلف أشكال الدعم السياسي والمالي المشروطين بناءً على الهدف المقصود: سحب ثورتها إلى مجالات أخرى لا يكون لها أي تأثير على الوعي السياسي، وحجزها، من ثَمّ، في المناخ الرسمي الذي يبرّر تصوّراتها القومية وتحالفاتها العربية والدولية، والنزوع التحكّمي الاستبدادي الذي ساست به المجتمع أيضا.

والحقيقة أن التصوّر اليساري الداعم للقضية الفلسطينية أصيب، بالتداعي، بالإحباطات نفسها التي كانت تصيب جسم الثورة الفلسطينية في المواجهات المختلفة التي واجهتها، والاختبارات الفعلية التي امتحنت أهدافها ونضالاتها في سبيل التحرير، بما في ذلك حجم التناقضات التي عمّرت بين فصائلها... حتى انتهى بها الأمر إلى نوعٍ من التنكّر الذي جاء مصحوبا بالقمع السلطوي والهزائم الخاصة على المستويين، الذاتي والموضوعي.