في تفكيك "ستون سنة بسلطان ظالم خير من ليلة بلا سلطان"
أورد الامام ابن تيمية هذه المقولة في "الفتاوى"، وهي لا تختلف عما أورده كل من الإمام مالك وسفيان الثوري رحمهما الله "سلطان جائر سبعين سنة خيرٌ من أمة سائبة ساعة من نهار". ما نأخذه على هذه المقولة، ابتداءً، ترسيخها الظلم وشرعنته، على حساب العدل وشرعيته، والقول في تبرير مثل تلك المقولات إن "ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها"، أمر يحتاج لكثير من توثيق وتدقيق وتحقيق وتفكيك؛ فكيف يرسّخ الدين للظلم، ومن يقول بذلك يتجاهل قولاً آخر لابن تيمية في رسالته "الحسبة": "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"، الأمر الذي يؤكّد أن مثل هذه المقولات تحتاج لإمعان نظر وفهم للسياقات والأحوال.
وتفكيك مثل هذه المقولة، عن أهمية تحمّل السلطة الظالمة فترة طويلة، تجنباً لفوضى ليلة واحدة من دون سلطة، ما زالت تتعلق في هذا السياق بالإطار الذي سبق أن أشار إليه الكاتب، والمتعلق بـ "ضرورة السلطة"، وكأن هذه الضرورة تقف حالةً مستقلة بكل ما يرتبط بآثارها الظالمة والخطرة والضارّة على الأمة، وأنها يمكن أن تكون محلاً للقبول، وأن مطالبة هذا الحاكم بالعدل كأنها طريق الفوضى والفتنة والخراب، وهذا لعمري تأويل خطير لا يتعرّف قيمة العدل في الرؤية الإسلامية وعلوها في ميزان تصاعد القيم، كما أكد ذلك أستاذنا حامد ربيع.
وكما يؤكّد بعضهم، يمتلئ التراث بعديد من مثل هذه المقولات التي لا ترى المعادلة بشكلها الصحيح، بل دارت أطروحاتهم عن الاستبداد في مقابل الفوضى، ففي هذه الحالة التي يُخير فيها الناس بين السيئ والأسوأ لن يكون أمامهم إلا اختيار السيئ والصبر عليه، خصوصاً حينما يصطبغ بقداسة الدين ومقولات رجاله، ومن هنا يجب تصحيح هذه المعادلة ووضعها باعتبارها ثنائية (الاستبداد/ الحرية) لا ثنائية (الاستبداد/ الفوضى)، خصوصاً أن الدولة الحديثة قد شرّعت آليات لمواجهة الاستبداد تخرج عن حيز الفوضى، ومن بينها التظاهر والاعتصام والعصيان المدني، التي تتسم جميعاً بالسلمية، وتجافي العنف الذي كان يخشاه القدماء، والذين لم يكونوا يعرفون مثل هذه الأدوات والآليات التي يمكن استخدامها في المعارضة، والتي إن وجدت لم تكن تمتلك أي شيءٍ في مواجهة السلطة التي تمتلك كل شيء، ولا تعترف بأية معارضة لمقاومتها.
الشرعية المقترنة بحال الرضا ترتبط بممارسات السلطة وعدلها، لا بظلمها واستبدادها
من ناحية أخرى، لا تزال هذه المقولة تغفل الساق الثانية في المعادلة، وهي "ضرورة الشرعية"، ذلك أن "ضرورة الشرعية" لا تقل بحالٍ عن "ضرورة السلطة"، وأن الشرعية المقترنة بحال الرضا ترتبط بممارسات السلطة وعدلها، لا بظلمها واستبدادها، وهو أمرٌ يجب أن نتبينه، ونحاول أن نقيم المعادلة بميزانها، وإلا فمع اختلال تلك الموازين أعطينا المسوّغ والمبرّر لحكام العصر المستبدّين، لنبرّر لهم تلك المقولة الزائفة "أنا أو الفوضى"، فالأمر على هذا النحو الذي جعل تقبل الظلم قربة وطاعة، وهذا من متناقضات الأمور، وكأن هؤلاء يبحثون عن مسوّغات الظلم في جنبات تراثنا لتبرير الظلم ما كان وما سيكون، وهي قضيةٌ خطيرةٌ تنافي السنّة الماضية التي أكّدها ابن خلدون في مقدمته "الظلم مؤذنٌ بخراب العمران"، وأين تلك المقولة من مقولات أخرى "أن الإمام العادل خصب الزمان"، وأين ذلك أيضاً من الحديث الذي رواه كثر، وإن أضعفه بعضهم من باب بعض رواته، وإن كان معناه حسن "يا أبا هُريرةَ، عَدْلُ ساعةٍ خيرٌ مِن عِبادةِ سِتِّينَ سَنةً؛ قِيامِ ليلِها، وصِيامِ نَهارِها، ويا أبا هُريرةَ، جَورُ ساعةٍ في حُكْمٍ أشَدُّ وأعظَمُ عندَ اللهِ مِن معاصي سِتِّينَ سَنةً". هكذا تكون المعادلة العادلة بإقامة العدل والقيام بالقسط، ومن فضل تلك المقالات وتفكيك تلك المقولات أن أحالتنا على التعرف إلى كتاب في غاية الأهمية، "فضيلة العادلين من الولاة" للإمام أبي نعيم الأصبهاني، الذي ذُيِّل بـ "تخريج أحاديث العادلين" للإمام الحافظ عبد الرحمن السخاوي.
ومن هنا، فإن هذا التأويل الذي قد يشار إليه على لسان العقلاء درءاً لفتنة، ومنعاً لفوضى، إنما، في حقيقة الأمر، تعلق أو ربما ارتبط بسياقات بهذه الحال التي ترتبط بمواجهة العدو الخارجي ضمن سياقاتٍ معينةٍ، تؤكد قيام السلطة الظالمة بواجبات تتعلق بحماية الدولة من عدوان خارجي، ولعل ذلك هو ما تعرّض له الإمام ابن تيمية، خصوصاً أن في كتاباته الأساسية للعدل مقاماً ومكاناً سامياً، حيث يؤكد وجوب العدل في جميع الأحوال وعلى جميع الأشخاص، فقال: "العدل واجبٌ لكل أحد على كل أحـد في جميع الأحوال، والظلم لا يباح شيء منه بحال". كذلك قرّر أن "العدل والشرع متلازمان؛ فليس فيما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ظلم قط .. وأن الظلم الذي يقارفه علماء أو قضاة، ويرونه شرعاً مع أن الأدلة الشرعية تنقضه.. كل ذلك أوجب سوء ظن كثير من الناس في الشرع وفرارهم منه والقدح في أصحابه".
لماذا توارت مقولات العدل، ولم يكن لها الذيوع ذاته، على الرغم من أن العدل يُعَدّ ركناً ركيناً في ارتباطه بمسألة السلطة وشرعيتها؟
ومن هنا، فإن بعضهم الذي يؤسّس مواقف ثابتة على تلك المقولة التي شاعت وذاعت ضمن اعتبارات وسياقات إنما يعبّر، في حقيقة الأمر، عن ظلم بيّن من هؤلاء الذين يحملون تلك الكلمة باعتبارها القاعدة الماضية التي لا تتخلف؛ وتغفل وتتناسى كل تلك الأوامر الإلهية والقرآنية للقيام بالعدل والقسط، وكل تلك الأفكار التراثية التي تنافح عن قيمة العدل، وتجعلها أساساً للمُلك والسلطان، يحتاج ذلك كله منا إلى ما أكدناه أن تلك المقولة ومثيلاتها يجب أن تؤخذ، في هذا السياق، على محمل الاستثناء، كما وردت في السياق عند الإمام ابن تيمية. أما جعل كل تلك ضمن رؤية للطاعة المطلقة من غير قيد أو حد، ومن غير شرط أو مانع، إنما يشكل خروجاً على ميزان العدل، ومعادلة السلطة والشرعية والطاعة، ضمن الفهم الصحيح الذي يستند إلى قيمة العدل باعتبارها القيمة العليا.
ولعل ذلك ينسف ما يمكن أن يسمّى استعمال تلك المقولة وتلقيها وتداولها، وضرورة أن نجعل الحديث عن مقولات العدل وإقامته أولى بالتقعيد والتثبيت والتعبير عن المواقف الثابتة عن مثل تلك المقولات التي تشكّل استثناءً يجب أن يُفهم في سياقه، بل وجب أن نحذّر من إشاعته وترويجه لهدم ركن أصيل في مسألة السلطة ضمن حقيقة الرؤية الإسلامية في هذا المقام.
ولعل هذا الأمر يحيلنا على ضرورة أن نُسكّن تلك الكلمات في سياقاتها، والتعرّف إلى علم اجتماعها وعلم إعلامها، وأن نبحث عن إجابتين للسؤالين: لماذا ذاعت مقولات الظلم وتبنّاها بعض من العلماء؟ ولماذا توارت مقولات العدل، ولم يكن لها الذيوع ذاته، على الرغم من أن العدل يُعَدّ ركناً ركيناً في ارتباطه بمسألة السلطة وشرعيتها؟ لعل ذلك يحيلنا على دراسةٍ متأنيةٍ ضمن تلك الأدوات والمناهج التي تتعلق بتحليل تلك المقولات، والوقوف على كل ما يتعلق بإمكانات تفكيكها جملة، ذلك أن تلك المقولات غالباً ما جمعتها بعض الفتاوى المستحدثة والمقالات التي قد تسوّغ التأويلات الخاطئة وتبني على قاعدة منها مواقف سياسية تستند إلى التراث، وتُتخذ شعارات.