جون كيربي يجيب جورج بوش
وحدَها إجابة جون كيربي عن سؤال صحافي عربي، قبل أيام، عن موقف الإدارة الأميركية، من واقعة اقتحام عشرة مسلّحين من المستعربين الإسرائيليين مستشفى ابن سينا في جنين، وقتلهم ثلاثة فلسطينيين على أسرّة علاجِهم واستشفائهم، بكواتم صوت، وحدَها تصلحُ إجابةً عن السؤال العتيد والباقي: لماذا يكرهوننا؟ وصاحبه الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش (الابن)، طرحَه في خطاب له في الكونغرس، في سبتمبر/ أيلول 2001. قال كيربي بالضبط إن الولايات المتحدة مع حماية المستشفيات ولكن إسرائيل قالت إن من قتلتهم إرهابيون. ولمّا كان أرشيف الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عقود ثقيلاَ بمواقف وسياساتٍ معاديةٍ لحقوق الشعب الفلسطيني، ونصيرةٍ لكلِّ اعتداءاتٍ إسرائيليةٍ عليه، يصير من الميسور أن يُستدلَّ برزمٍ من شناعاتٍ أميركية في هذا الخصوص شاهدةً على هذه البديهيّة، إلا أن هذا كله لا يخصم من القيمة الباهظة لما أفضى به كيربي بشأن الجريمة الإسرائيلية المشهودة، لأن عبارته، على قِصرها، تضجُّ بكذب ونفاق وفيريْن يلتقيان مع اصطفاف دولةٍ عظمى مع سلوك عصابةٍ من الزعران القتلة.
وإذ يتولّى هذا الرجل منصباً أظنّه مُستحدثاً، منسّق مجلس الأمن القومي الأميركي للاتصالات الاستراتيجية، فإنك لا بد ستفترض محقّاً أن الإدارة الأميركية الراهنة (كما سابقاتُها بالمناسبة)، وعلى أعلى مستويات صناعة القرار الأمني والعسكري والاستراتيجي، إن كانت مع "حماية المستشفيات"، كما تشيع عن نفسها، فإنها، في الوقت نفسه، لا تُؤاخِذ أيَّ قوةٍ إسرائيليةٍ معتديةٍ تستبيح أيَّ مستشفى فلسطيني ولا تنتقدها. وليس منسيّاً أن كيربي هو الذي أعلن أن لدى حركتي حماس والجهاد الإسلامي مركز قيادة ومراقبة انطلاقاً من مستشفى الشفاء في غزّة، في غضون الاعتداء العسكري الصريح الذي باشَرتْه إسرائيل في هذا المستشفى (بُني قبل إعلان دولة إسرائيل). وعندما انتقدَت منظمّة الصحّة العالمية هذا الكلام، واعتبرتْه بمثابة ترخيصٍ أميركيٍّ لجيش الاحتلال أن يستهدف المرضى والأطبّاء وطواقم المستشفى، عقَّب كيربي بالنفي.
ربما قصَد جورج بوش في سؤاله ذاك كارهي أميركا ممن خطّطوا هجمات 11 سبتمبر (2001) ودبّروا وهيّأوا لها، ثم من ناصروها، فيما كان مُطالباً بأن يسأل نفسَه عن الأسباب التي تجعل السياسة الأميركية تجاه العرب والمسلمين مقيتةً، بل وعدوانيةً في غير شأنٍ وواقعة، فلا يجيبُ عن سؤاله بالذي أجاب به، إن أولئك يكرهون الحرّيات الأميركية، حرية التعبير والحرية في التصويت وفي الاختلاف، والحرية الدينية. كان طريفاً من الرئيس الابن وصفَه الأميركيين بأنهم خيّرون، ولم يكن لأحدٍ أن يقول غير هذا، لولا أنه افترضَ أن شخصَه ومن معه في إدارته خيّرون أيضاً. ولا يحسُن اعتبارُ كلِّ ذلك الكلام الذي نطق به بوش في خطابٍ أمام المشرّعين الأميركيين تهريجاً، ولا الذي يقولُه جون كيربي في إطلالاته شبه اليومية، ولا يكفّ فيها عن ابتكار عبارات الإسناد للجيش الغازي في غزّة، عندما يبكي على الهواء مباشرةً تفجّعاً على القتلى الإسرائيليين والأسرى في 7 أكتوبر، وعندما ينزّه جيش الاحتلال من أي ارتكاباتٍ في غضون عدوانه المعلوم، وعندما يفترض في نفسه الأهليّة لتبرئة إسرائيل مما هي متّهمةٌ به في مثولِها أمام محكمة العدل الدولية، وعندما لا يرى صلةً بين ضربات الحوثيين في البحر الأحمر والعدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة.
انعطف جون كيربي من اختصاصه الجامعيِّ الأول في الفنون إلى دراسة العلاقات الدولية ثم الخدمة في الجيش أزيد من 25 عاماً، قبل أن يصبح متحدّثاً باسم الخارجية ثم البنتاغون ثم يصير في منصبه الذي يُزاول فيه فنوناً في تغذية العرب بأسبابٍ مضاعفةٍ في كراهية السياسة الأميركية، ذلك أن ما يصدُر عنه من أقوال، وهي أشدُّ تعاسةً مما نسمعُه من الوزير بلينكن والرئيس بايدن، تفيدُ في تفسير ما يضطرد ارتفاعاً من مواقف كارهة للولايات المتحدة في المجتمعات العربية، فقد أبان 94% من المستطلعين العرب في قياسٍ أنجزه أخيرا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن موقف واشنطن بشأن الحرب في غزّة سلبي وسلبيّ جدّاً، فهو لا يتورّع عن تظهير أقبح ما في انحيازات الولايات المتحدة للعدوان ... ما يجعلُه سببا ساطعا للكراهية التي استفظَعها جورج بوش قبل أزيد من عقديْن.