حبسة صوتية

حبسة صوتية

17 ابريل 2022
+ الخط -

في وسعي أن أتفهّم مبررات الممثل الأميركي، بروس ويليس، وهو يعلن اعتزاله التمثيل بسبب "حبسة صوتية" ألمّت به، وأفقدته القدرة على الكلام، سيّما لو كنتُ مواطنًا غربيًّا يدرك قيمة "الصوت". لكن على العكس من ذلك، أعجب وأستهجن مثل هذه المبرّرات في بلاد عربية آخر ما يعنيها قيمة "الصوت".

لعل معضلة ويليس أنه عاش في زمن "السينما الناطقة" المعتمدة على الصوت. ولنا أن نتخيّل، مثلًا، لو كان شارلي شابلن قد اتّخذ خطوة مماثلة فأعلن اعتزاله التمثيل بسبب "حبسة صوتية" في زمن السينما الصامتة، عندها لن يكون الاعتزال مسوّغًا، غير أن لكلّ زمن أفلامه وممثليه، باستثناء الزمن العربيّ الذي لم يكن له سوى زمن واحد على امتداد قرونه الكثيرة، ودولة واحدة، ورجال وحيدين، وأعني بالطبع "دولة الصمت" بسكانها المصابين بـ"حبسة صوتية" أزلية الماضي، وأبديّة المستقبل، على خلاف ما قال به شاعرنا أبو البقاء الرندي: "لكلّ زمان دولة ورجال".

يساورني يقينٌ مُفرط بأن اعتزال بروس ويليس أوسع مدىً من حبسة صوت، غير أن الصوت، تحديدًا، في بلاد الحريات رافعةٌ أساسيةٌ ومحرّكٌ محوريٌّ في الحياتين، العامة والخاصة، فهناك ينظر السياسيون إلى المواطن بوصفه "صوتًا"، ويخشى رجال القانون والقضاء والأمن "صوت المواطن"، ويحسب لهذا الصوت ألف حساب إن صرخ أو احتجّ أو شكا، فإن احتبس الصوت لأيّ سببٍ كان، سرعان ما تهرع إليه الأجهزة الرسمية والأهلية كلها لمعرفة سبب "الاحتباس الصوتي"، وربما تعقد قمة غربية على غرار "قمة الأرض"، لو استفحلت ظاهرة الاحتباس، بعنوان جديد اسمه "قمة الصوت".

على هذه الغرار، كان بروس ويليس ينظر إلى صوته المفقود، فقد شعر أنه فقد أحد أهم مقوّمات وجوده في عالم الصوت المرتفع المعبّر عن الكيان والذات. صحيحٌ أن الاحترام يطاول أجزاء الإنسان كله، الممنوع على الخدش والجلد والحبس، غير أن للصوت اعتبارًا مضاعفًا لأنه الناطق الرسميّ عن الأجزاء الأخرى برمّتها.

أما في بلاد "الحبسات" و"السكتات"، فتمرّ "الحبسة الصوتية" مرور "اللئام"؛ لأن الصوت نفسه ممنوع أصلًا، أو لأنه ينبغي أن يكون موجهًا باتجاهات محدّدة، فإن أصيب مواطنٌ بهذه "الحبسة"، فلن يشعر به أحد؛ لأن الحبسة أساس والصوت استثناء، ولأن المواطن برمّته "محبوس". وأراهن لو أجرى سكان العالم الثالث اختبارًا صوتيًّا، لجاءت النتائج كلها مؤكّدة إصابة ثلاثة أرباعهم، على الأقل، بحبسةٍ صوتيةٍ مرضيةٍ نتيجة قانون الاستعمال والإهمال، أو بحبسةٍ صوتيةٍ طوعية، خشية التفوّه بما لا يرضي ساسة الاستبداد وأنظمة القمع، وهي "حبسةٌ" أصبحت عضوًا في مكونات الجينات المتوارثة منذ مقولة الحجّاج: "من تكلّم قتلناه ومن سكت مات بدائه"، فقد كان الحجّاج يعرف أن "الصمت داء"، مهما حاول جهابذة الأمة تحسينه ومضارعته بـ"الذهب"، وجعل نقيضَه من "فضة"، سيما عندما يكون صمتًا على الاستبداد والفساد وجور الحكام، فمثل هذا الصمت مرضٌ قاتل يميت الأعضاء الأخرى، ويحبسها عن الفعل؛ ليتحوّل الإنسان من بعدها إلى جثّة متحرّكة متحلّلة، لا يعنيها من أمر الحياة غير "سوء الختام".

كم "حبسة" أصابت المواطن العربي بدائها ولم تنسلّ، أليست هناك "السكتة الدماغية" أيضًا، التي تفشّت كالجائحة في الرؤوس العربية، حتى وإن لم تكن سكتة مرضية بالمعنى المعروف، فالدماغ المعطّل عن التفكير مصابٌ بالسكتة أو بالحبسة حكمًا. والغريب أن أصحاب هذه السكتات لم يحيلوا أنفسهم على التقاعد كما فعل بروس ويليس، لأنهم يعتقدون أن في وسع المرء أن يعيش بلا دماغ ولا صوت ولا قلب، وبلا إحساس أيضًا، وهم معذورون في ذلك، لأن فلسفة الحياة بالنسبة لهم لا تتعدّى الأنشطة البيولوجية الأساسية، بعيدًا عن التفكير والبحث، وبعيدًا عن الحرّيات برمّتها، سيما وأن سيف الحجّاج ما زال مسلطًا على أعناق المتكلمين، ومحيطًا بالصامتين.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.