حين يتحدّث محمد جواد ظريف

25 مايو 2024
+ الخط -

من المجدي الاستماع إلى وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، شخصاً مُتقدّماً على أقرانه في الدبلوماسية الإيرانية، لا لأنّه متعلّم في جامعات أميركية، مثل سان فرانسيسكو ودنفر، في ثمانينات القرن الماضي، بل لأنّه الرجل الذي في وسعه إضافة لمسةٍ مُغايرةٍ في نقاشاتٍ معيّنة، تحديداً، تلك التي تلت حادثة تحطّم طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، وآخرين، في مقاطعة أذربيجان الشرقية في 19 مايو/ أيار الحالي. لم يتردّد ظريف في إلقاء اللوم على العقوبات الأميركية "التي تستهدف صناعة الطيران الإيرانية"، معتبراً، في مقابلة مع التلفزيون الرسمي الإيراني، أنّ "الصعوبات التي واجهتها إيران في شراء قطع الغيار لطائرات الهليكوبتر القديمة، بعد عقود من العقوبات، قد أسهمت في الحادث المميت".

ما الذي عناه ظريف في تعليقاته؟... سعى إلى إحباط نظريات المؤامرة التي سادت، وبعضها مُستمرّ، بشأن تورّط جهةٍ ما، داخلية أو خارجية، في حادثة الطائرة. ذلك، وعلى جري العادة، لا يُمكن لكثيرين في الشرق الأوسط والعالم الاقتناع بأنّه قد يكون للمصادفة وللأسباب الطبيعية وللتقنية دور في حادثة الطائرة. دائماً ما يجنح عديدون إلى فرضيات المؤامرة المُحكمة. وإذا كانت فرضية الاغتيال الداخلي مطروحة، فإنّ رئيسي نفسه كان ابناً بارّاً للنظام الإيراني. وإذا كان فعلاً منافساً لمجتبى خامنئي، نجل المرشد الديني علي خامنئي، لخلافة الأخير، فإنّه يكفي المرشد الطلب منه الجلوس جانباً، وسيطيع رئيسي ذلك. أما إذا كان اغتيالاً خارجياً، فإنّ أيّ طرفٍ لن يَحبِك حادثةً من هذا النوع، في وقتٍ قصيرٍ، وبفرضيات نجاح محدودة للغاية، وبموارد مالية ضخمة، بل سيكتفي بوسائل اغتيال تقليدية. لا تجب إشاحة الأنظار عن أنّ العامل الطبيعي دائماً ما يبقى أقوى من أيّ عنصر آخر في التخطيط لأيّ عملية قتل. في ستالينغراد السوفييتية، حطّمت الطبيعة الألمان، وفي إنزال النورماندي الفرنسية أربكت الحلفاء.

وأيضاً، عنى ظريف أنّ بلاده غير قادرة على مواجهة الولايات المتّحدة عسكرياً، مع إشارته إلى الوضع السيئ لطيران بلاده. وفي هذا اللوم للأميركيين تأكيدٌ على محدودية التحرّك الصناعي الإيراني، بفعل العقوبات الأميركية على وجه الخصوص، وأيضاً، بفعل تردّد الحليفين المُفترضين لإيران، الصين وروسيا، في إمدادها بالتقنيات اللازمة لتطوير قطاعاتها الحيوية. يعدّ ظريف نفسه مرناً في العلاقات مع الغرب. لا يعود السبب إلى أنّه العامل الأنشط على خط توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، قبل خروج الأميركيين منه في عام 2018، بل أيضاً لأنّه من دعاة توثيق العلاقات مع الغرب، ومنهم الأميركيون، ومع الشرق، بصورة متساوية. وهو وإن كان من الأشخاص الذين يهاجمون الولايات المتّحدة، غيرَ أنّه "كان دوماً يحاول فعل كلّ ما هو ممكن لتحسين العلاقات بشكل بارع وواضح وصريح... إنّه شخص يعرف الولايات المتّحدة جيّداً جدّاً، ورغم كلّ الإخفاقات في الماضي، لا يزال شخصاً يعرفونه في واشنطن"، وذلك بحسب أحد الدبلوماسيين الغربيين الذين تعاملوا معه في عام 2013، خلال المفاوضات النووية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ ظريف اشتكى في تسجيل صوتي مُسرّب في عام 2021 من أنّ "الحرس الثوري يمارس نفوذاً على الشؤون الخارجية والملف النووي للبلاد".

بناء على هذه الخلفيات، لا تُعدّ تصريحات ظريف في ما يتعلّق بحادثة رئيسي سوى محاولة لإبراز الواقع الفعلي لإيران وقدراتها، لا كما يحلو للسلطات الإيحاء به. وهي محاولةٌ يُمكن اعتبارها ناجحة قياساً على حدثين سابقين: الردّ الإيراني على اغتيال الأميركيين زعيم "فيلق القدس" قاسم سليماني في عام 2020، والردّ الإيراني على قصف الاحتلال الإسرائيلي قنصلية طهران في دمشق في إبريل/نيسان الماضي. في الحالتين، أبلغت إيران الجميع أنّها ستردّ وضمن حدود معيّنة لا أكثر. هذا ما حاول ظريف قوله: إنّ إيران ليست بالقوة التي تحاول إظهارها، وإنّ استمرارها بذلك سيجعلها تبتعد عن الواقع، فتخطئ في الحسابات.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".