سورية وضرورة تشكيل مجتمع سياسي

سورية وضرورة تشكيل مجتمع سياسي

21 فبراير 2023

(أنس يمان)

+ الخط -

عندما تطرُق سمعي كلمة "سورية" أو "الشعب السوري"، في أثناء متابعتي الأخبار، أكون ممتلئة بسورية المقيمة في وجداني كبديهيّة، لم تخلّصني الحرب منها، ولم أعترف في قلبي بسورية الحالية برغم فداحة الواقع، قلبي تعيش فيه سورية "سايكس بيكو" التي ولدتُ فيها وهي مُنجزة، وهي تعني المرادف الملموس لمفهوم الوطن الذي لم أصل إلى تكوين صورة عنه إلى اليوم، فأفاجأ بأن سورية المقصودة، في الخبر أو التغطية، هي جزء من سورية فقط، وأن الشعب السوري هو فقط هؤلاء الذين يسكنون البقعة المقصودة بالخبر، الواقعة تحت سلطةٍ ما، مستثنى منها بقية المجموعات السورية في المناطق الأخرى، وكأنها صارت خارج التصنيف ودون الاعتراف، أو صارت تعني فقط الطرف الآخر الذي كان سببًا في خرابنا، مع أن الخبر يقول: وقع في سورية.
حتى على مستوى الخطابات السياسية، من الـ "القادة أو الزعماء" الذين يستلمون دفّة القيادة وتوجيه السياسات، فإن سورية لا تعني لهم أكثر من البقعة التي يسيطرون عليها، حتى إن رئيس النظام السوري، المعترف به دوليًّا، حيث لم تتشكّل بالمقابل شرعية دولية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وله ممثلوه في المحافل الدولية وفي المنظمّات والهيئات، لم يذكر في خطابه المتلفز في 16 من شهر فبراير/ شباط الحالي، من المناطق المنكوبة بالزلزال سوى المناطق الواقعة تحت حكمه، حلب، حماة، اللاذقية، وكأن أولئك السوريين ليسوا من أهلنا، وتلك المناطق ليست سوريّة.

مع الكارثة الجسيمة، توزّعت ظروفُ الخراب على السوريين، عاشوا التجارب الأليمة نفسها، كغيرهم ممّن دفعتهم الحرب إليها منذ عشر سنوات

مع هذه الكارثة الجسيمة، توزّعت ظروفُ الخراب على السوريين، عاشوا التجارب الأليمة نفسها، كغيرهم ممّن دفعتهم الحرب إليها منذ عشر سنوات، بعد أن كان قسمٌ منهم يراها على الشاشات فقط، عاشوا الرعب، انهيار البيوت فوق رؤوس ساكنيها، الموت، فقدان الأحبّة، الجروح، الكسور، بتر الأعضاء، كلّ ما يمكن أن يسبّبه غضب بهذه الدرجة، عاشوا فقدان المأوى، التشرّد، البرد، الجوع، المرض، والأكثر قهرًا "انتظار المساعدات"، لمسوا لمس اليقين ما معنى أن تنهار الحياة، مع فارقٍ شديد القهر، أن من قضوا خارج حدود بلادهم لا يلاقي كثيرون منهم قبرًا لهم، ولا يحظى بطقوس دفن وشاهدة قبر توثق موته، وتوثق أنه لم يكن وهمًا، بل مرّ على هذه الحياة، وكان له أهل وأصدقاء ووطن، ورفاق مصر وقدر. سوف يعيش السوريون السؤال الأكثر غموضًا ويأسًا: ماذا بعد؟ ماذا ينتظرهم في المستقبل؟ ربّما كان هذا السؤال الأكثر شراسة وقهرًا على وجدان السوريين النازحين واللاجئين في المخيمات أو خارجها في مناطق اللجوء البائسة، هي أكثر من عشر سنوات، والسوريون يعيشون في المؤقّت، فهل يصنع المؤقت، الذي تطاول حتى صار هو الشكل الوحيد للحياة، إنسانًا ومجتمعًا وشعبًا ووطنًا وتاريخًا؟ وكيف يمكن الحفاظ على انتعاش أرواحهم وهم يفقدون شيئًا فشيئًا ثقتهم بالمستقبل، بل يكادون يفقدون معنى المستقبل؟ هذا حال السوريين في تلك المناطق، ملايين منهم في المخيمات، هل يستطيع ضمير "حيّ" أن يبقى هادئًا عندما يغوص في تفاصيل هذه الحياة؟ التفاصيل الصغيرة البديهية؟ 

جاء الزلزال ليدمّر الدرك، ويحيله إلى أعماق أكبر، إلى قيعانٍ تصبح الحياة فيها شبه مستحيلة، هذا ما ينتظر السوريين غدًا

ماذا لو أغمضنا أعيننا، نحن الساكنين في بيوت، مهما انخفض مستوى الخدمات التي تقدّمها الحكومات للمواطنين فيها، وهي صارت شحيحةً حدّ الافتقار لها، أو المقيمين في دول لجوء تحترم قيمة الإنسان، فلا ينقصنا شيء ممّا يجعل الحياة مكتفية، وتصوّرنا كيف يعيش أهلنا في تلك المخيمات؟ ماذا عن دورات المياه؟ كيف هي المياه المتوفرة لاستحمامهم وغسل ثيابهم، وشربهم؟ كيف يحصلون على خبزهم ويطعمون أطفالهم؟ كيف تتعامل الصبايا والنساء مع احتياجات أجسادهن الخاصّة؟ كيف تنام الأسرة كلها من أبوين وأبناء، هم كثر عمومًا، ومعهم الأجداد والجدّات، وربّما عائلة ممتدّة بشكل أوسع، في خيمة واحدة؟ كيف يفقد الإنسان خصوصيّته التي صنعتها آلاف السنين من تراكم ثقافي وخبرات فأنتجت منظومة قيم وأعراف، منها ما يسمّى "الحرمة"، وطباعًا شخصية أيضًا، منها ما يُدعى الخجل؟ في ظروف عيشٍ من هذا النوع تمّحي الهويّة الإنسانية بالتدريج، والقهر الأكبر أن تبقى الذاكرة متقدة وتستعيد في ضميرها تلك الهويّة، أمام عجز كامل عن صونها وحمايتها وتحقّقها إلّا بالحدّ الأدنى، بل يتراجع الأفراد ويتنازلون عن حقوقهم الطبيعية مكرهين. وزيادة على هذه التراجيديا، هناك أكثر من مليون من هذه الملايين أطفال أيتام، يُضاف إليهم يتامى الزلزال، أكثر من مليون خامة مستقبلية، تضاف إلى ملايين الخامات المهدورة والمعذّبة تتوزع على مساحة سورية. 
بعد أن تهدأ الهزّات، سوف يفيق السوريون على واقعهم الجديد، وعلى حجم الدمار الذي خلّفه، أبنية منهارة وأخرى على وشك الانهيار، وأخرى متصدّعة لا يؤمن لها، واقتصاد فاقمت الكارثة من انهياره وعجزه، وفرص عملٍ شحيحة، وفوضى في التخطيط ليوم جديد، فكيف بعمر جديد؟
بعد تلاشي الهزّات الارتدادية التي تعقب الزلازل، وتمرّ بعض الأيام أو الأسابيع على آخر هزّة، سوف ينسى الناس خوفهم اللحظي الذي رافقهم طوال المدّة التي تلت الزلزال، وكانت حافلة بالهزّات، وسوف يعودون بالتدريج إلى الخوض في الحياة، لكن أي حياة؟ من دون الحديث عن الفجائع الشخصية والجروح التي سيتولّاها الزمن لدى كل منكوبٍ سوري بمفرده، إنها حياة شعب بكامله تردّت منذ ما قبل الكارثة، إلى الدرك الأسفل، فجاء الزلزال ليدمّر هذا الدرك، ويحيله إلى أعماق أكبر، إلى قيعانٍ تصبح الحياة فيها شبه مستحيلة، هذا ما ينتظر السوريين غدًا.
ماذا قدّم العالم للسوريين المنكوبين الذين هجّرتهم الحرب، ودفعتهم إلى حياة المخيمات، أو اللجوء إلى الدول المجاورة، يسامون شتى أنواع الذلّ والمهانة، غير السلاح من جهة، والتبرّع بما يبقيهم على قيد الحياة فقط، من جهة أخرى؟ بضعة ملايين من المقيمين في المخيمات، أو في ظروفٍ تشبهها، يعيشون مدفوعين إلى الموت المجازي، في حياة بلا هدف أو مستقبل، بلا تعليم بلا عمل، حياة تتردّى فيها أنشطة الإنسان إلى مستوياتٍ مخيفة، فيعيشون في عطالةٍ مستديمةٍ وفي تراجع، لا يمكن القول عن الحضارة، بل عن الحدّ الأدنى اللازم للعيش في العصر، ولو على هامشه، هكذا تموت الأوطان.

ربما صار هناك درجات من قبول فكرة التقسيم، التي هي واقع فعلي، وكأن لسان حال بعضٍ من السوريين يقول: فليكن، المهمّ أن نخرج من جحيمنا

هل سيعمل العالم على تقديم الحلول للمشكلة السورية بعد هذه الأزمة واستفحال الأوضاع إلى درجةٍ صار من الصعب تحمّلها، أم سيبقى السوريون يعيشون في هذا المؤقت إلى أن يأتي الزمن بحلوله؟ ربما صار هناك درجات من قبول فكرة التقسيم، التي هي واقع فعلي، وكأن لسان حال بعضٍ من السوريين يقول: فليكن، المهمّ أن نخرج من جحيمنا، وندخل عتبة الأمل في أن يكون لنا وطن، ونبدأ مسيرة بنائه.
هل سيتشكّل مجتمع سياسي جديد بعد الزلزال؟ ربما كلمة "جديد" زائدة، إذ لم يكن هناك مجتمع سياسي قبل انتفاضة 2011، هذا أكثر ما تحتاجه سورية وشعبها، فقد كشفت الكارثة جوانب عديدة يمكن أن تخدم النزوع نحو تشكيل مجتمعٍ سياسيٍّ جديد، مجتمع يرى الأمور بعين جديدة، بعدما خزّنت مشاهد كثيرين عن سنوات المحرقة، مجتمع قبل كل شيء يخلع عنه قالب الشخصية الامتثالية التي تمكّنت على مرّ التاريخ الحافل بالهزائم والانكسارات والطغيان، من نفوس أفراده، واشتغلت عليها بحرص وتصميم مدروسين، كل السلطات التي تتقاسم النفوذ على كامل سورية، وكأنهم مستنسخون من نسيج النظام الذي عارضوه وثاروا ضدّه وعملوا، متكئين على وعود الخارج وأسلحته، على إسقاطه، وهو المدعوم والمستقوي بقوى خارجية أيضًا، ولم يستطيعوا أن يقدّموا شيئًا للشعب المنكوب، غير الوعود والـ "المساعدات" التي يمكن الحديث كثيرًا عن سوء إدارتها، أو الفساد الذي يحكم سبل إدارتها. مجتمع جديد يرى بعين واحدة أن الإيراني محتلّ، والتركي محتلّ، والروسي محتلّ، والأميركي محتلّ، مجتمع لا يفرح بعضه بالضربات الإسرائيلية على سورية، أو يغضب منها آخرون باعتبارها العدو الوحيد، بل يبحث عن أصل المشكلة ويستعين بكل شرائحه للبحث عن حلول، مجتمع سياسي يستطيع أن يسأل نفسه: تُرى لو عملنا معًا على رتق جروحنا ومدّ أيدينا باتجاه بعضنا بعضا، وقاومنا إملاءات القادة الحاليين وأوامرهم، هل سيبقى العالم على موقفه من قضيتنا؟ هل سنبقى أيتاما ومهملين كما نحن اليوم؟