لماذا شاركت السلطة الفلسطينية في اجتماع العقبة؟

01 مارس 2023

فلسطينيون يتظاهرون في غزة ضد مشاركة السلطة الفلسطينية في اجتماع العقبة (26/2/2023/Getty)

+ الخط -

بعد أيام معدودة من الجريمة البشعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في نابلس، والتي لا تزال آثارها في الميدان، كما في وجدان الفلسطينيين جميعا، عقد اللقاء الأمني الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة، وضم مصر والأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية. وكان تحديده قد جرى في اجتماعات سرّية بين السلطة والاحتلال، وللمفارقة الدالة في الفترة الوجيزة التي أعلن فيها عن وقف التنسيق الأمني! أي أن هذا الاجتماع خُصّص لوضع الآليات اللازمة لتنفيذ الشقّ الأمني من الخطّة الأميركية التي كان علامتها الأبرز سحب مشروع التصويت على إدانة إسرائيل في مجلس الأمن؛ وقد تم سحب المشروع بتنسيق بين السلطة الفلسطينية والإمارات الذي تقدّمت به، وسيجري العمل على إطلاق الخطة الأمنية.

لن يختلف اثنان في أن قرار السلطة الفلسطينية المشاركة بالاجتماع جاء على النقيض التام من الحالة العامة في المناطق الفلسطينية: الضفة الغربية بما فيها الأحياء الفلسطينية المحتلة في حالة احتقان ربما لم يحصل مثيلها منذ أكثر من 20 عاما؛ الأسرى الفلسطينيون في حالة عصيان متصاعد منذ أسبوعين؛ المواجهات باختلاف درجاتها تمتدّ على خريطة الضفة الغربية بما في ذلك مواجهة إرهاب المستوطنين المنظّم، والذي تجلى نوعيا في الهجوم نهارا على قرية بورين والتنكيل بساكنيها وحرق سياراتهم وممتلكاتهم، ثم على بلدة حوارة وحرق سيارات وممتلكات عديدة فيها. وتأكد فلسطينيا بشكل لا يقبل اللبس أن ما حدث في نابلس أثمر فحسب مزيدا من الدعم والشرعية للمقاومة المسلحة، ومزيدا من العزلة للسلطة الفلسطينية ونهجها البائس إثر خروج آلاف في مختلف المدن الفلسطينية استجابة لدعوة من "عرين الأسود"، الأمر الذي كان قد عوين في الأشهر الماضية، مشيرا بلا مواربة إلى بوصلة مغايرة تماما لمسار السلطة الفلسطينية.

عوضا عن التمسّك بالممانعة (بالحد الأدنى) والتقدّم في مواجهة سياسية ودبلوماسية وقانونية لإبقاء الحكومة الإسرائيلية وأشياعها تحت الضغط، تذهب السلطة الفلسطينية في مسار يريح هذه الحكومة

مشاركة السلطة الفلسطينية في اجتماع العقبة مخالف لأبسط قواعد الاستراتيجية والحصافة السياسية، فلم يكد يجف حبر التوافق (إن صحّت تسميته توافقا، إذ جاء بأوامر أميركية)، على سحب مشروع قرار مجلس الأمن إلا وبادرت إسرائيل إلى مذبحتها في نابلس. جاء رد السلطة على هذا الحدث الفارق مُغرقا في العجز والإفلاس. قيل إن "السلطة تدرس بعمق اتخاذ خطوات للرد على العدوان"، وقيل إن "إسرائيل غدرت بنا". وإذ نحن أمام قرار هو حقا عميق جدا بالتقدّم نحو شراكة أمنية كاملة بموجب الخطة الأمنية المطروحة لتتبنّاها السلطة الفلسطينية. وإذ نحن أيضا أمام استمراء ما نتعرّض له من غدر، ولأن المسار المرسوم لهذه الخطة الأميركية - الإسرائيلية يخلو من أي محتوى سياسي، وينحصر فقط في ترتيبات أمنية ستحمل وزرها أجهزة الأمن الفلسطينية، فإن حاصل جمعها السياسي مكاسب صافية للحكومة الفاشية في تل أبيب ورئيسها، على شكل إقرار فلسطيني وأميركي بالعمل معها أمنيا، وبالرضوخ لترتيباتها وتداعيات هجومها الفتّاك على أبناء شعبنا، وتعزيز علاقاتها العربية والإقليمية، فعوضا عن التمسّك بالممانعة (بالحد الأدنى) والتقدّم في مواجهة سياسية ودبلوماسية وقانونية لإبقاء هذه الحكومة وأشياعها تحت الضغط، تذهب السلطة الفلسطينية في مسار يريح هذه الحكومة، وهي تعلن ضم الضفة الغربية بحكم القانون إثر تسلم سموتريتش مهامه، الأسبوع الحالي، والتي تجعله الحاكم الرسمي والفعلي المدني للضفة الغربية.

وجاءت المشاركة في اجتماع العقبة بالضد من مواقف كل القوى الوطنية والإسلامية والسياسية الفلسطينية، بما فيها شركاء حركة فتح في منظمة التحرير، حيث أعلنت هذه الفصائل رفضها الاجتماع. وبنظرة سريعة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، يمكننا مطالعة مئات التعليقات ومن شخصيات اعتبارية ومختصّين، وسياسيين مرموقين، وكلها ترى في هذه المشاركة كارثة سياسية، وقفزة في الفراغ، ستنتهي باصطدام عنيف للسلطة الفلسطينية مع الشارع الفلسطيني والمقاومة. ومن ذلك أن نبيل عمرو اعتبر سحب مشروع القرار في مجلس الأمن كان خطأ وبلا مقابل، وقالت حنان عشراوي إن العودة إلى التنسيق الأمني وسحب مشروع القرار والذهاب إلى العقبة "غير معقول" و"جنون" و"سخرية سوداء".

مشاركة السلطة الفلسطينية في اجتماع العقبة مخالف لأبسط قواعد الاستراتيجية والحصافة السياسية

هل تراهن السلطة الفلسطينية على قدراتها الأمنية لإبقاء الشارع تحت السيطرة، وعلى حشر وتحجيم ظاهرة "عرين الأسود" و"كتيبة جنين" وغيرهما من بؤر المقاومة إلى النقطة التي لا تعود فيها قادرةً على العمل، بحكم أن خيار المواجهة المباشرة مع السلطة لا يمكن تصوّره، ولا يبدو أبدا أنه خيار بالنسبة لهذه التشكيلات، وبالتالي، إنهاء الظاهرة بأقلّ قدر من العنف؟ والأهم هل ستنتظر "إسرائيل" قيام السلطة بهذه المهمة، أم أنها ستُقدم على مزيد من الهجمات المميتة، وتضيف المزيد من الافتراق بين الشارع والسلطة، ما سيدفع الأمور إلى مواجهة مأساوية بين الطرفين، إذا ما حدث صدام مسلح بين المقاومين وأجهزة الأمن الفلسطينية؟

كيفما قلّبنا المسألة، فإن الخطة الأمنية الأميركية التي باتت معروفة للجميع نقطة تحوّل نوعي كبرى في الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية الرامية إلى تحويل السلطة الفلسطينية إلى شريك أمني (صغير وتنفيذي)، ودفعها نحو مواجهة مفتوحة مع الناس. والملفت حقا أن السلطة تلوذ بالصمت إزاء ذلك كله، بينما كانت منذ ثلاثة أسابيع تنفي تماما وجود هذه الخطة الشيطانية، فهل لا تعي السلطة وعرّابو هذه التفاهمات الأمنية من بين قيادتها هذه المخاطر الجسيمة؟ فما يجري حقّا لا يصدّقه العقل.

لا يمكن تصوّر ذلك؛ تعلم السلطة الفلسطينية علم اليقين بأن المسألة تنطوي على مخاطر كبرى، تشمل الدخول في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع الشارع ومع بؤر المقاومة المسلحة بكل ما يمكن أن ينتج عنها من مصائب، ويبدو أنها تقبل بهذا الاحتمال. ففي وقتٍ سابق من العام الماضي، أعلن مسؤولون كبار في السلطة الفلسطينية استعدادها للعمل في الميدان أمنيا في جنين ونابلس لإنهاء ظاهرة المقاومة، إذا ما سمحت لها إسرائيل بذلك. أي أنها معنية بالأساس، وقبل الخطة الأميركية، بأن تفرض هيمنتها الأمنية، ولو على حساب حياة الشعب الفلسطيني وكرامته وحقوقه، وبالتأكيد على أنقاض ظاهرة المقاومة المستجدّة في شمال الضفة الغربية. وإذ تعتقد السلطة أنها فقدت قدرتها على التحكّم بمجريات الأحداث عملت بشكل مكثف، ونجحت نسبيا، وإنْ مؤقتا، في احتواء "عرين الأسود" في حينه. وإذا اتفقنا على أنه لا يوجد مقابل سياسي لهذا الاندفاع، فإن التفسير المعقول الوحيد أن السلطة الفلسطينية تتصرّف كمن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتصارع من أجل بقائها وأمنها فقط، وهي ترى أنها تفقد كل مبرّرات وجودها.

تعاني السلطة الفلسطينية من التآكل غير المسبوق في شرعية وجودها الذي جرى تبريره ثلاثة عقود باعتبارها نواة الدولة المستقلة

تعاني هذه السلطة من التآكل غير المسبوق في شرعية وجودها الذي جرى تبريره ثلاثة عقود باعتبارها نواة الدولة المستقلة والسيادة، وهو المشروع الذي انتهى اليوم بكيانات ممزّقة لا يربطها رابط، وتعزلها بعضها عن بعض بنى استعمارية - استيطانية ومنظومات فصل عنصري، واستيطان تعاظم وأكل الأخضر واليابس؛ ولم تعد لدى السلطة القدرة على ادّعاء أنها كيان ديمقراطي أو يستمد شرعية مؤسّساته وهيئاته القيادية من صندوق الانتخاب، ولا من الشرعية الثورية القائمة على مواجهة إسرائيل، بل إن السلطة متورّطة بممارساتٍ وسياساتٍ تشكّل خروقا فاضحة للحقوق والحريات مقابل وقوفها متفرّجة على ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين من ملاحقة وقتل وتنكيل وهدم ودمار. وعلى المستوى السياسي، تعيش السلطة أضعف حالاتها بحكم توقف عملية التسوية (الوهمية)، وبالتالي فقدان مبرّر وجودها وعلاقاتها العربية والإقليمية والدولية، بحيث باتت تبدو كعبء استراتيجي على كل الأطراف، فلا هم يريدون التخلّص منها بحكم دورها الوظيفي، ولا هم راغبون في التعاطي معها بحكم محدودية ما يمكن أن ينتُج عن استمرار التسوية، وبحكم أن المسألة الفلسطينية لم تعد أولويةً في ظل التطوّرات الإقليمية والدولية الراهنة. وعلى المستوى الداخلي، يعاني أداء السلطة والحكومة من أسوأ مظاهر الفساد، السياسي والمالي والإداري، وإعادة إنتاج الأزمات المالية والاقتصادية، بحيث تعيش الضفة الغربية حالة من الاحتقان والإضرابات وموجات الغلاء المتلاحقة. وبفعل هذه الأزمات، تحوّلت السلطة والحكومة إلى ماكنة جباية واقتراض لسدّ عجزها المتراكم، وهي ترزح تحت ضغط القرصنة "الإسرائيلية" لأموالها وأموال الفلسطينيين، من دون أن تضع الحلول المناسبة.

وأخيرا، سحبت السياسات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، وبالتحديد توسيع نطاق عمل الإدارة المدنية ومكتب "المنسّق"، البساط من تحت أقدام السلطة، وأحالتها إلى كيان غير ذي صلة، وهو ما سيتعمّق أكثر فأكثر في مقبل الأيام والشهور، ناهيك عن تقويض "هيبتها" وتصفية مصداقيتها وظهورها غير قادرة على، ولا راغبة في، الدفاع عن شعبها بحكم تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في كل أنحاء الضفة الغربية، وبخاصة بعد العمليات أخيرا في جنين ومخيم عقبة جبر ونابلس. فإذا كانت السلطة لا تستطيع تقديم أيٍّ من أدوارها المدّعاة لشعبها، فإن كل ما تبقى لديها هو الحفاظ على بقائها وإعادة إنتاجها، حتى لو تطلب الأمر الذهاب بعيدا في الرضوخ لإملاءات واشنطن وإسرائيل وبعض القوى الإقليمية، معتقدةً أنها بذلك تشتري الوقت، لترتيب أوراقها الداخلية، استعدادا لمرحلة جديدة من وجودها. مرحلة لن ترى النور على الأغلب على الأقل بحكم سياسات الحكومة الفاشية في إسرائيل، والتي لا ترى في وجود السلطة الفلسطينية أمرا ضروريا أو مطلوبا في ظل عزم هذه الحكومة على استئصال الفلسطينيين، سياسيا ووجوديا، ومعنويا، إلا إذا أصبحت السلطة شريكا في هذا الاستئصال، وهذا هو جوهر الموضوع في العقبة.

حسين أيوب
حسن أيوب
أكاديمي فلسطيني، أستاذ السياسة الدولية والسياسات المقارنة في جامعة النجاح الوطنية، عمل أستاذا زائرا في جامعة دنفر في الولايات المتحدة.