ما بعد رفح وجنوب لبنان

12 مايو 2024
+ الخط -

كان السيناريو العسكري لحرب تموز (2006)، بين إسرائيل وحزب الله، يتكوّن من سلسلة هجمات جوّية قامت بها إسرائيل عبر الطيران أو الصواريخ أو المدفعية بعيدة المدى، ولم تحصل أيّ مواجهة مباشرة بين عناصر الحزب والجيش الإسرائيلي. اكتفى الطرفان بتراشق دقيقٍ وكثيفٍ وفعّال، وقد سقط لحزب الله خلال تلك المواجهات، التي استمرت 33 يوماً، 250 عنصراً بحسب اعتراف الحزب، وانتهت الحرب بقرار أممي (رقم 1701، ويدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار ونشر القوات الحكومية اللبنانية في الجنوب بالتعاون مع قوات "يونيفيل" تزامناً مع الانسحاب الإسرائيلي إلى ما وراء الخط الأزرق) لم ينفّذه الحزب، واستعاد عبر إيران تسليحه. وعاد الوضع إلى الهدوء بين حزب الله وإسرائيل، وصولاً إلى لحظة 7 أكتوبر (2023)، فنشبت مواجهات جديدة بين الطرفين على خلفية الهجوم الإسرائيلي على غزّة، فصارت إسرائيل تقصف مواقع حزب الله بالصواريخ أو بالطائرات، ويردّ الحزب بصواريخ ومُسيّرات، ولدى إسرائيل القدرة على الوصول إلى شخصيات قيادية من الحزب وتقتلهم مباشرة، ما يعني أنّ هناك اختراقاً إسرائيلياً مع تجاوز عدد الذين سقطوا من الحزب، منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول، 250 فرداً، وما زالت المنطقة مُشتعلة، وأُخلي طرفا الحدود من السكان، وباتت وقفاً على العسكريين والمُسلّحين. والآن، تجاوزنا مائتا يوم من دون أن يعرف أحد متى يمكن أن تتوقّف هذه المواجهة، سيّما أنّ الحرب في غزّة ما زالت مُستعرة.
رغم أنّ عدد القتلى بين صفوف وقيادات حزب الله، في المواجهات الأخيرة، قد تجاوز اليوم ما أعلنَ عنه الحزب في يوليو/ تموز 2006، إلا أنّ حزب الله ما زال محافظاً على التواتر القتالي المُنخفض، ورغم أنّ إسرائيل تدفع فاتورة باهظة، تبدو من خلال العدد الكبير للمستوطنين الذين أبعدتهم عن الحدود، إلا أنّها تحافظ كذلك على إيقاع الحرب الهادئة، فهي لا تظهر رغبتها في التصعيد حالياً، ولكنّها في ذات الوقت لا تريد التوقّف تماماً، وتبدو مرتاحةً لاستمرار الوضع الحالي قائماً. رغم حربها في غزّة التي استدعت لها جُلّ احتياطيّها، وأخرجت مخزونها الحربي، وحشدته في مواجهة مقاتلي "حماس"، لكنّ إسرائيل ما زالت تملك عدداً كافياً لمشاغلة حزب الله، والردّ عليه بقوة مناسبة، وأحياناً عنيفة ومُؤثّرة تطاول بنى تحتية ومخازن أسلحة، ناهيك عن قيادات ميدانية فعّالة، كما تلجأ أحياناً إلى ردّ فعل عالي الشدّة، فتقصف أهدافاً ومواقع بشكل متزامن، وكأنّها تحفّز حزب الله ليبقى على وضع الاستعداد طوال الوقت، فيما يبدو كأنّه قياسٌ لمقدار قوة الخصم الحالية. بعد أن أصبحت إسرائيل وحلفاؤها شبه مُسيطرين على طريق السلاح، الذي يمرّ من إيران إلى حزب الله، يبدو أنّ التكلفة العالية، التي تدفعها إسرائيل لتقدير قوة حزب الله، تخفي نيّات قد تكون مماثلة لتلك التي تبيتها لـ"حماس"، وهي تحاول اقتحام رفح وتُمنّي النفس بمعركة أخيرة تخوضها ضدّها.
الطريقة التي هاجمت بها "حماس" غلاف غزّة في 7 أكتوبر تبدو مُلهمة، ويمكن أن تغري قادة حزب الله، خاصة أنّ هجوم "حماس" كان "ناجحاً" معنوياً، رغم عدم تبريره سياسياً، وحتّى اليوم، اكتفى حزب الله بهجمات مدروسة ومتفرّقة ومتباعدة زمنياً، يضرب فيها الحدود الإسرائيلية فيقتل جنوداً أو يُفجّر موقعاً، لكنّ هجوم "حماس" يشكّل إحراجاً لمسؤولي الحزب بالقدر الذي يمكن أن يدفعهم لأن يقوموا بمثله، وإسرائيل التي تدرك نفسية الحزب جيداً تعرف أنّه قد يفكّر بتلك الطريقة، وهذا سيقود العقل الاستباقي لديها إلى النظر بجدّية تجاه حدودها الشمالية، بعد أن تقفل ملف 7 أكتوبر. جبهة الشمال مُرّشحة بقوة للاشتعال فيما إذا نجح هجوم رفح، فذلك قد يثبّت بنيامين نتنياهو، ومع استمرار المعارك سينتشر الدمار في مناطق عديدة قد تتجاوز غزّة وجنوب لبنان، وطالما لا يوجد أحدٌ، حتّى الآن، مدّ رأسه، وبدا مُستعدّاً أو مُستعجلاً في إعادة البناء وإدارة المناطق، وبالتالي، ستتشكّل مساحات واسعة من الخراب ستخضع للمساومات، وإعادة توزيع النفوذ.

فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية