ميسّي يعانق مجده الكروي في قطر

22 ديسمبر 2022

ميسي يحمل كأس العالم بعد فوز منتخب الأرجنتين في نهائي مونديال قطر (18/12/2022/Getty)

+ الخط -

أتاح مونديال كرة القدم في قطر، لكل متابعيه من عشّاق اللعب والفرجة، مناسبة لمعاينة أنماط العلاقات الفعلية والمتخيلة مع الرياضة الأكثر شعبية في العالم. أتاح لهم التمتع بسحر الكرة وجاذبيتها، ومختلف الأدوار الأخرى التي تمارسها في عالم متعولم ومتصارع. عالم يتحدّث عدة لغات، وتَشُدُّه مصالح وأهداف متناقضة، ولم يعد بإمكانه أن يتخلّى عن الرياضة والفُرجة والتقنية وكل ما يرتبط بما ذكرنا. ويحقّ لنا أن نتساءل اليوم بعد انتهاء المونديال الكروي، وانتهاء الأعراس والانتصارات والهزائم والحروب الخفيّة والمُعْلَنة، التي حصلت في قلب ملاعبه وبموازاتها، يحقّ لنا أن نتساءل، ماذا بعد المونديال الكروي بكل مآثره في الكرة وفي التدبير والترتيب؟ 
عايش متابعو مباريات المونديال بالصورة والكلمة عشرات المواقف والأحداث التي رافقته، وقد دارت منافساته لأول مرة فوق أرضٍ عربية، وتَمكَّن فيه الفريق المغربي من كَسر الصورة المعتادة التي استأنس بها عشّاق كرة القدم منذ بداياته الأولى، سنة 1930، حيث أسهم الحضور المتميز للفريق في تكسير الصورة النمطية الراسخة، لصراع كروي أوروبي أميركي لاتيني، صراع ظلت فيه بعض فِرق أميركا الجنوبية وحدها، تقف في مواجهة الفرق الأوروبية، وتنتصر على بعضها في المونديالات السابقة. ولم يكن مقبولاً، في أذهان من استأنسوا بِتقاسُم مزايا الموقف الرياضي الكروي السائد عقوداً، أن يقبلوا ببعض نتائج مونديال قطر، ولا أن يقبلوا النجاح الباهر الذي حقّقته قطر، في موضوع تنظيم مُستلزمات وطقوس المونديال وترتيبها، كما لم يكن بإمكانهم قَبول النجاح الكبير الذي حققه الفريق المغربي. وقد أدّى هذا كله إلى شَنّ حملات مُغرضة على البلد الذي استضاف المونديال، وعلى الفريق الصانع للبهجة المغربية والعربية.

لا ينبغي أن ننسى مختلف الإنجازات التي حققتها قطر، وأسهمت في تعزيزها المباريات الرائعة

لن تدخل هذه السطور في مواجهة ما قِيل وما سَيُقَال عن البلد المضيف، ولا ما قِيل وسَيُعاد قوله عن التفوق المغربي، وقد تأهل فريقه إلى المربّع الذهبي. بل تعتني بلحظة التتويج في نهاية المونديال، وتستدعي بعض علامات متميزة في مختلف المباريات. سنتابع ما حصل داخل ملعب من أحدث ملاعب الكرة في العالم، وبحضور فريق الأرجنتين المُتوَّج بقيادة اللاعب مِيسِّي الذي نال الكرة الذهبية لأحسن لاعب في مونديال 2022، ولاعبي فريقه، المتوّجين بدورهم بالكأس والميداليات الذهبية، فقد استمتع الجمهور الذي تابع نهائيات المونديال بمختلف صور جاذبية اللّعب الكروي وملامحها، جاذبية النَّصر والهزيمة، سِحر الكرة وهي بين أرجل اللاعبين، سحرها وهي داخل شِبَاك المرمى، سحرها طائرةً فوق سماء الملعب، فِتْنَتُها على أرض الملعب تنتظر القدم الضَّاربة والرأس الْمُسَدِّد. "ساعتان من اللَّعب، ساعتان من المساواة والعدل، فلا ترى فريقاً يلعب بأحذيةٍ نفاثة مثلاً وفريقاً حافياً" بلغة الشاعر تميم البرغوثي. 
سنعود إلى داخل ملعب لوسيل في الدوحة، لنتابع مع عشّاق كرة القدم هتافات المساندين للفِرق المتنافسة داخل الملعب وأهازيجهم، صياحهم وأغانيهم، بكاءهم وفرحتهم، ألوان وجوههم وقد زُيّنت بألوان لِباس ورايات الفرق داخل الملعب.. وطوال أيام شهر من الألوان والأصوات والشعارات والأعلام، وعدد كبير من الإصابات والهزائم، وكثير من صور الاحتكاك والسُّقوط والألم داخل الملاعب. وفي قلب هذا كله لا ينبغي أن ننسى مختلف الإنجازات التي حققتها قطر، وأسهمت في تعزيزها المباريات الرائعة التي شاهد فيها متابعو المونديال في العالم أجمع لوحات جميلة من اللعب، وعاينوا التطوّر الكبير في الأداء الكروي العالمي، كما عاينوا المباهج المغربية المتجلية في التفوق على بعض الكبار من الفِرق الأوروبية المُشارِكة في المونديال.
ونحن نُوَدِّع مونديال قطر، يظل راسخاً في الأذهان أن الاحتفال بالمونديال الكروي يُعَدّ احتفالاً بالفرجة ومَسرّاتها، باللعب الأنيق والإصابات الصّانعة للانتصار، كذلك يُعَدُّ احتفاءً بالرجاء والأمل، وبحسن أداء اللاعبين وفنونهم. ونتصوَّر أن أهمية منجزات مونديال قطر ستدفعنا إلى ضرورة تَذَكُّر الاحتفاء الحاصل في قلب الملاعب، وفي قلب شاشات التلفزيون الناقلة للمباريات في العالم أجمع، ضرورة تَذَكُّر الاحتفاء أيضاً، بحضور اسم فلسطين والتّغني بتحريرها، الأمر الذي يُشير إلى نوع من الإعلان الواضح برفض التطبيع، ورفض الاستيطان الإسرائيلي الأرض الفلسطينية في قلب ملاعب قطر. ويحق لنا في ضوء رسالة التَّذكّر والتذكير السابقة، أن نتحدث عن اليقظة الجديدة للحلم العربي، حلم العروبة والتحرير.

تُشكِّل نهاية المونديال مناسبة لمزيد من التفكير، لمواجهة مختلف الأعطاب التي تواجه مجتمعاتنا اليوم

أتاحت لنا المناسبة الكروية معاينة عودة جدل ثقافي ورياضي وسياسي، وضعَنا جميعاً أمام فرصة ثمينة، من أجل إعادة النظر في معطيات ومواقف كثيرة، عن أحوالنا العامة وصور علاقتنا بالعالم.. الروح الوطنية، والهوية العربية، وكذا الهوية الثالثية والأفريقية، وروح الكونية التي نتقاسم مع الجميع في عالم متغيِّر ومتعولم، كلها أحاديث تبلورت على هامش وفي سياق مونديال قطر، فهل نقول اليوم بعد انتهاء العرس الكروي الكبير، وفوز الأرجنتين المُسْتَحَق به، ومشاهدتنا مِيسِّي وهو يعانق مَجْدَهُ الكروي، حيث تُوِّج في أميركا بالكأس الأميركية، كما رفع في أوروبا الكأس الأوروبية، ويُكَرِّس ما سبق وهو يرفع اليوم كأس العالم في كرة القدم، مُتوِّجاً بذلك مساره الحافل في كرة القدم. هل يحقّ لنا أن نقول، ونحن نُعاين كل ألوان المجد تحصل أمامنا: انتهى الكلام؟ 
يحقّ لنا أن نتساءل، ماذا بعد مونديال قطر؟ يمكننا أن نُواصل الكلام من أجل مزيد من التفكير في المستقبل العربي، ليس في رياضة كرة القدم، بل في مختلف التحدّيات التي تواجه فيها مجتمعاتنا مخاطر متعدّدة، مختلف التحدّيات المرتبطة بالسياسة والثقافة والرياضة والتاريخ... الأمر الذي يُفيد بأنه يمكن أن تُشكِّل نهاية المونديال مناسبة لمزيد من التفكير، لمواجهة مختلف الأعطاب التي تواجه مجتمعاتنا اليوم، فلم يكن يخفى على أحد أن الظاهرة الكروية والمونديال العالمي رياضة، إلا أنها، قبل ذلك وبعده، ظاهرة اجتماعية ثقافية، وأنها مُوَجَّهة ومُدَبَّرة في إطار تنظيمات مدنية سياسية، وتُؤطرها بنيات تقنية، كما تُرتِّب أنظمتها في اللعب قواعد وأخلاقاً، وسياسات مُتوافَقٌ بشأنها.. وداخل الرّصد الذي رسمنا، نجحت قطر في تنظيم الدورة الـ22 من المونديال وصناعة الحدث، كما نجح المغرب في بلوغ مربّع الأربعة الكبار، وفرح الجميع بمعانقة ميسِّي مجده الكروي.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".