هل انتهت حقاً حقبة العرب؟

10 مارس 2021
+ الخط -

تعجّ وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية هذه الأيام بمقالاتٍ ودراساتٍ تناقش ما اتفق أصحابها على تسميتها نهاية "الحقبة العربية" في منطقة الشرق الأوسط، في مقابل صعود أدوار القوى غير العربية (إيران، تركيا، إسرائيل). ويذهب بعض هؤلاء، كما الأميركي من أصل إيراني، والي نصر، في مجلة فورين بولسي، إلى القول إن الصراع الرئيس في المنطقة لم يعد كما كان سابقًا بين مشروعين، عربي وإسرائيلي (غربي)، بل غدا بين ثلاثة مشاريع: تركي وإيراني وإسرائيلي، تتنافس السيادة على المنطقة الممتدّة من وسط آسيا إلى قلب أفريقيا العربية. أما العالم العربي فقد أصبح، في غياب مشروع خاص به ودولة مركزية تقوده، ضعيفا، ومنقسما في تفضيلاته وتحالفاته بين هذه القوى، وملحقا بها حتى. لا جديد في هذا الكلام، ولا يثير أي اهتمام لولا ترديده ونشره، بطريقةٍ احتفاليةٍ، وكأنه إضافة فكرية عظيمة، من باحثين عرب يشك المرء في أنهم باتوا هم أنفسهم ملحقين بهذه المشاريع.

لا بد من التذكير أنه قبل عقود فقط، لم يكن ممكنا تخيّل منطقة الشرق الأوسط أو الحديث عنها بدون إعطاء العرب الذين احتلوا مكانة القلب فيها، ما يستحقون من اهتمام، فيما كانت القوى الأخرى (إيران وتركيا وإسرائيل) ملحقة بالمشاريع الغربية، وتلعب أدوارًا هامشية في الإقليم. وحدهم العرب تصدّوا للسياسات الغربية في المنطقة، خلال فترة الحرب الباردة، ووقع على عاتقهم مواجهتها، بوزنهم الديموغرافي الكبير ورقعتهم الجغرافية الممتدة، وموقعهم المركزي في منظومة العالم الثالث، وامتلاكهم مصادر الطاقة بالغة الأهمية للاقتصاد العالمي. لا بل تمكّن العرب حتى، في منعطفين تاريخيين، من فرض إرادتهم على الغرب (عامي 1956 و1973)، وكانت لذلك تأثيرات بالغة الأهمية على مستوى العالم. ولم يقلّ دور مصر وأهميتها في الخمسينات والستينات عن دور الصين وأهمية الهند، وكانت بالتأكيد أعظم أثرا من أي قوة متوسطة الحجم في العالم. ظل الرئيس الأميركي، دوايت أيزنهاور، يخطب ود الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والقوميين العرب، حتى آخر يوم من ولايته. وظل وزير خارجيته، جون فوستر دالاس، يردّد أنه لا يمكن هزيمة الاتحاد السوفييتي بدون مساندة العرب الذين يحملون الإسلام باعتباره نقيض الشيوعية (Anti - thesis) ويملكون النفط. وبالفعل هزم الاتحاد السوفييتي بالإسلام في أفغانستان، وبالنفط الذي دفعت السعودية أسعاره إلى الانهيار في منتصف الثمانينات.

صارت تلك الأيام من الماضي، اذ لا يفتقد العرب اليوم إلى مشروعهم الخاص فحسب، بل صارت حواضرهم ساحة صراعٍ لمشاريع الآخرين، بسبب بؤس نظم الحكم العربية وضيق أفقها، وسوء تقديرها وفشلها في إدارة دولها ومجتمعاتها، فانتهت أدوار الحواضر العربية الكبرى، من بغداد إلى دمشق والقاهرة، وبينهما بيروت بألقها الفكري والثقافي. ليست منطقة الخليج العربية أفضل حالا، فاللحظة الخليجية التي احتفى بعض المثقفين الخليجيين ببلوغها، مع انتقال مركز الثقل في السياسة العربية إلى منطقة الخليج، بعد سقوط العراق وسورية وانكفاء مصر، جاءت أقصر كثيرا مما تخيّل أصحابها، فالخليج، كما تدل التطورات الجارية على ساحته اليوم، عاجز عن التصدّي بمفرده للتحدّيات التي تواجهه، وهو يدفع فاتورة غياب دول المشرق العربي عن موازين القوى الإقليمية، واستفراد إيران به. وتُمعن دول الخليج العربية في الخطأ، إذ تحاول تعويض غياب السند العربي بالتحاقها بمشاريع غير عربية، لأن هذا سيحوّلها هي نفسها إلى ساحة صراع، وهو ما بدأت بوادره تظهر.

عدم تقدير نخب الحكم العربية أهمية التضامن العربي، وغياب إرادة الفعل لديها خارج إطار الحفاظ على كرسي الحكم، وعدم إدراكها أهمية الاستقواء بشعوبها، وبالطاقات التي تملكها، هي العوامل الرئيسة في تهميش أدوارها، فالعرب لا يفتقرون إلى مقومات قوة حقيقية، بل إلى الايمان بها وبأنفسهم، فاقتصادات دول الخليج وحدها مثلا تبلغ نحو 1,65 تريليون دولار، أي أنها أكبر من اقتصادات تركيا (761 مليار دولار) وإيران (445 مليارا) وإسرائيل (394 مليارا) مجتمعة. وتنفق على التسلح ضعفي ما تنفقه الدول الثلاث، وهي قادرةٌ، إذا اختارت مصر الاضطلاع بدورها التاريخي في المشرق العربي، على إعادة بناء النظام الإقليمي العربي، ومساعدة سورية والعراق على النهوض من جديد. إذا حصل هذا تصبح أطروحة "نهاية العرب" مثل أطروحة "نهاية التاريخ"، بائسةً، مصيرها سلة المهملات.