الإرهاب اليساري الجميل
أغمض عينيك، وأطلق كل أحصنة خيالك، حتى تصل إلى هذه الصورة:
مجموعة مسلحة تضم إسلاميين متشددين، ملتحين ويتكلمون "إرهابي مكسّر"، هاجموا مكتب النائب العام في فرنسا، أو في تونس، أو في ألمانيا، أو في مصر، واحتجزوا الرجل رهينة، بعد تقييده بالسلاسل، ووضع كعوب مسدساتهم في رأسه، في انتظار أن تلبي سلطات بلاده كل طلباتهم ومطالبهم، وإلا سيقومون بتصفيته.
وقبل انتهاء المهلة، تتحرك القوى الأمنية لتحرير الرهينة، والتعامل مع الإرهابيين، فينتهي المشهد بمقتل الخاطفين والنائب العام المخطوف معاً.
استمر في التخيّل، وحاول الحصول على إجابات عن الأسئلة التالية:
كم بيان استنكار وإدانة صدرت من عواصم العالم الحر المتحضر المستنير لهذه الجريمة الإرهابية البشعة؟
كم دولة عرضت مساعدة لوجستية ومادية على السلطات في هذه الدولة للتعامل مع الجريمة النكراء؟
كم رئيس دولة من دول العالم الإسلامي سارع بإصدار تصريحات يؤكد فيها أن الإسلام السياسي مصدر كل الشرور في العالم؟
كم تصريحاً من عبد الفتاح السيسي يقول فيه إن "الإخوان" هم منبع الإرهاب العالمي، ولا حل لإنقاذ الكوكب من هذا النوع من الجرائم الإرهابية سوى زيادة عدد طائرات الأباتشي وإف 16 الممنوحة له من الولايات المتحدة، وأن مصر تعرض خدماتها وخبراتها على الدولة التي شهدت هذه الحادثة البشعة.
كم بياناً للخارجية المصرية يعلن أن العالم يدفع ثمن عدم اعتماد رؤية الرئيس القائد الملهم، عبد الفتاح السيسي، للحرب على الإرهاب، ووضع مليار وستمائة مليون مسلم، في قارات الدنيا الست على لوائح الاشتباه.
كم زعيماً قرروا السفر إلى عاصمة الدولة، مكان الجريمة، لتقديم العزاء والمشاركة في أطول مسيرة دولية ضد الإرهاب، يتلاحم فيها بنيامين نتنياهو ومحمود عباس، وتلمع فيها النظارات السوداء؟
كم مؤتمراً، وكم حلقة نقاشية، تم الإعلان عن افتتاحها في عواصم العالم العربي، بمشاركة توليفة معتبرة من مشايخ وقساوسة وحاخامات، لمناقشة كيفية الوصول إلى إنتاج إسلام جديد، يخلو من كولسترول الإرهاب؟
كم "ناعوتة"، وكم نفراً من "دعاة لاظوغلي"، قرروا تكوين جبهة قومية مستنيرة تأخذ على عاتقها مهمة الثأر من الأئمة الأربعة، وإعادة صياغة المصحف الشريف، بما يتلاءم وروح وقيم ثورة 30 يونيو/ حزيران المجيدة؟
.. والآن، أدعوك لإعادة كل جياد الخيال إلى مرابطها، وتكسير أرجلها، والنظر إلى الواقع كما هو:
في تركيا، احتجز إرهابيان ينتميان لمجموعة تركية سرية من اليسار المتطرف، تسمى "جماعة الجبهة الثورية لتحرير الشعب" المدعي العام التركي، محمد سليم كيراز، وانتهت العملية بمقتل المدعي العام، متأثراً بإصابته خلال احتجازه بالقصر العدلي بإسطنبول.
هل اتشحت صحف القاهرة بالسواد حداداً على ضحية الإرهاب الأسود؟
هل انهمرت بيانات الإدانة والتعاطف والمساندة في القضاء على الإرهاب؟
هل أخرج أحدهم أزياء الحداد على ضحايا "شارلي إيبدو" من خزانة الملابس، أو استدعى محفوظات التنديد بالتطرف والإرهاب من الأرشيف؟
هل تداعى الباحثون والمباحثيون والخبراء والعلماء للوقوف على تحليل بواعث الإرهاب اليساري؟
هل انفعل أحدهم، و"نشع" تصريحاً مدوياً يقول فيه إن العالم لن يكون في أمان، ما دام غير قادر على اجتثاث جماعات "اليسار السياسي" من جذورها؟
بالطبع لم، ولن يحدث شيء من ذلك كله، لأنه، وببساطة شديدة، الضحية ينتمي إلى تجربة حكم ديمقراطي، يستلهم قيم ومفاهيم تحترم الفكر السياسي الإسلامي، وتضعه ضمن مرجعياتها في الممارسة السياسية، كما أن الجناة ليسوا من المنتمين لجماعات إسلام سياسي، وليسوا من الإخوان المسلمين، فكيف يمكن اعتبارهم إرهابيين مجرمين؟