داعش في تدمر.. مدرسة قائمة وتتوسّع

24 مايو 2015

مشهد عام لآثار في تدمر (11مارس/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -
سأل صديقي سيدة أجنبية عن أجمل موقع زارته في سورية، فقالت له بتلقائية: أقمت يومين في تدمر وعشقتها. فأجابها ببرود شديد: أقمت فيها عدة أعوام ولم تعجبني البتة. .. كان صاحبي "مُستضافاً" في سجنها الشهير. 

في ثمانينيات القرن المنصرم، قرر الحاكم بأمره الصغير ووالي المدينة الذي كانوا يسمونه مُحافظاً، القيام بتدمير جزء كبير من نسيج حلب المعماري الأقدم. كما قرر إحلال "الأحجار المهترئة" بأبنية تجارية وإدارية وسياحية. وفي احترامٍ واجب للبعد العسكري/الأمني لإدارة البلاد، أوكلت المهمة إلى شركات "إعمارية" تابعة للجيش، وبدأت الجرّافات في عملها الميمون، لإزالة ما تيسّر من الحي. لم تكن العملية جزءاً من نظرة "حداثية" للتطور العمراني، كما جرت عليه العادة في المخططات التي فتحت الشوارع الكبيرة في وسط المدن الأثرية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. حينها، كان التصور مشوّها لفكرة تطوير المدينة، لكنه لم يكن حاملاً جرعة الحقد تجاه الذاكرة الجمعية، أو رافضاً للارتباط المدني بالعمق التاريخي. الانتقامات من النسيج العمراني التقليدي جرت في الحقب اللاحقة، والتي اشتد فيها عود الاستبداد، واختفت فيها نسبياً أية أدوار للمجتمع المدني المُغيّب، أو المُدجّن.

أمام هذه الهجمة الشرسة على ذاكرة المدينة، تصدت مجموعة من مثقفيها الناشطين ضمن جمعية العاديات التي تُعنى بالتراث والحفاظ عليه، في حدود الممكن. وما كان من حال الحاكم بأمره الصغير إلا أن اتهم القائمين على هذا التحرك بالعمالة للامبريالية وللمخابرات الأميركية. فنبهته الأجهزة الأمنية الساهرة على قهر البلاد بأن التهمة المقدمة غير قابلة للتصديق، باعتبار أن غالبية المنضوين في إطار هذا الاحتجاج من خلفيات يسارية أو عروبية، فطوى صفحة تدمير الحيوات، لكنه تابع مشروعه في تدمير المدينة. وكانت هذه المواجهة بداية النهاية لجمعية العاديات، والتي أسسها الحلبيون في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين.
كانت المنطقة المستهدفة تحتوي، فيما تحتويه، على جزء مهم من سور المدينة. كما تم تدمير أحياء بكاملها تعود إلى قرون غابرة، بما تحتويه من أسواق وخانات، وتوسعت إمكانات الفساد والإفساد لدى مختلف الأجهزة الإدارية القائمة على المشروع. ولم يتم التوقف عن العمل في إطاره إلا بعد تصنيف اليونسكو المدينة جزءاً من التراث العالمي، ومنع القيام بأية عملية هدم فيها. ولم تكن الاستجابة إلى هذا الأمر مرتبطة باحترام القرارات الدولية، أو الإصغاء إلى النداءات الإنقاذية بقدر ما كانت جزءاً من عملية تجميل للمنظومة السياسية، التي كانت تعاني من فقدان مميت للقطع الأجنبي، وبحاجة للسياحة الجاذبة لهذا القطع.

في الفترة نفسها، قرر الحاكم الصغير، نفسه، إقامة مهرجان للرقص وللغناء في موقع حلبي تراثي، فوقع اختياره على القلعة الأيوبية، فأوعز ببناء مسرح إسمنتي مكشوف في وسطها الذي يحتوي على أهم أوابدها، وهو المعبد الحثّي. وقد قال إنه كان يود أن يحول القلعة بأكملها إلى مركز تجاري، لو قُيّض له.

كتب باحثون كثيرون عن الاستخدام السياسي للمكتشفات الأثرية من الأنظمة الديكتاتورية، وما كُتب عن سورية يعتبر الأهم والأكثر دلالة. ولكن، قيل القليل عن التدمير الممنهج بعباءة التحديث، أو عباءة الترميم. والقليل جداً أيضاً ذُكِر عما تمت سرقته بشكل منظم من خلال التنقيب العشوائي، أو من خلال بعض أفراد "عليّة" القوم الذين كانوا (وما زالوا؟) مكلفين بتصريف المسروقات من الآثار في الأسواق والمزادات العالمية. يُضاف إلى هذا كله، الجهل الممنهج الذي طغى على أجيالٍ من السوريين بالقيمة الرمزية، وليست المادية، لما يحتويه بلدهم من مواقع ومن أوابد، مما يشرح قليلاً العلاقة غير السوية الموجودة بين بعض المجتمع وهذه الآثار. وهذا يدخل في إطار أوسع للعلاقة بين المواطن والمجال العام، والتي ترعرعت في ظل الكره والخوف، وما نجم عنه من رغبة في الانتهاك وفي الانتقام من هذا العام المرتبط في اللاوعي بالسلطة المستبدة.

ما ورد من أمثلة ليس إلا شوكة من حقل صبّار، زرعته النظم المستبدة، والتي عاملت المواقع الأثرية كمصدر إثراء شخصي، أو مصدر سياحة تدرّ الدخل الشخصي/ العام، لانعدام التمييز الحقيقي بين الاثنين، في هذا الإطار. ومن نافل التذكير أن غالبية البعثات العاملة على التنقيب في سورية كانت أجنبية، وكانت المساهمة السورية فيها، إلا فيما ندر، لمراقبة شهقات وزفرات هؤلاء الأجانب المشكوك بأمرهم، حتى يثبت العكس ضمن العقلية الأمنوقراطية.

داعش يكره الآثار بمقدار ما أسست له الدكتاتوريات من إشكاليات مع المجال العام والذاكرة الجمعية، مع إضافة بعدٍ ديني مشوّه. وما قام به في العراق، وسيقوم به في تدمر، تقليدٌ استبدادي قائم في المنطقة بلبوس متلوّنة. وقد أثبت هذا التنظيم الإرهابي، وعلى أكثر من صعيد، أنه تلميذ نجيب في مدرسة قائمة. الاستبداد الديني الداعشي تعبيرٌ "حداثي" عن الاستبداد السياسي القابع على صدور الأمة، منذ فشل الدولة الوطنية في تثبيت أقدامها، إلا بالقهر والتخريب.
دلالات