أرماتا... أكثر من مجرد دبابة
أظهرت روسيا للعالم عضلاتها المفتولة، وسارت على أرض الساحة الحمراء، وحلقت في سمائها أحدث ما في الترسانة العسكرية الروسية من مركبات حربية، وكانت نجمة العرض بلا منازع المجنزرة القتالية "أرماتا". وهذه، كسابقاتها من المجنزرات الروسية، ليست دبابة وحسب، بل منصة قتال، أي أن هيكلها يستخدم في صناعة عدة مركبات قتالية، وهي: دبابة القتال الرئيسية (MBT- T-14) والتي حملت النماذج الأولى منها مدفعاً أملس عيار 125مم، وناقلة الجند المدرعة T-15، وكذلك المدفع ذاتي الحركة الجديد عيار 152 مم "كواليتسيا".
وميزة "أرماتا" أنها ليست مجرد تحديث للسلاح السوفييتي، كما دأبت روسيا منذ انهيار القطب الاشتراكي، بل هي سلاح جديد، وتختلف جذرياً عن الدبابات أو منصات القتال الروسية الأقدم. ومستوى التطوير المُدخل عليها يشكل نقلة ثورية، لا في صناعة الدبابات والمدرعات الروسية فحسب، بل حتى في العقيدة الدفاعية الروسية الموروثة، بقوة القصور الذاتي، عن الاتحاد السوفييتي.
زُوّدَت "أرماتا" T-14 ببرج غير مأهول، في خطوة جريئة لم يسبق الروس إليها أحد من صانعي الدبابات في العالم، حيث تم وضع طاقم الدبابة المُشكَل من قائد الدبابة والسائق والمدفعي في كبسولة منعزلة في مقدمة الدبابة (تخلى الروس عن الفرد الرابع وهو المُلقّم، منذ أضافوا آلية تلقيم أوتوماتيكي في الدبابة T-64 وهو أمر غير موجود في الدبابات الغربية، باستثناء الدبابة الفرنسية "Leclerc"، ونُقلت الذخيرة إلى كبسولة خلف برج الدبابة وفق النظام الغربي، بعد أن كانت تُخَزّن في موضع يقع أسفل وخلف قائد الدبابة والمدفعي مباشرة، بحسب التصميم الموروث عن العهد السوفييتي، وتم تخصيص كبسولة ثالثة، منعزلة عن الكبسولتين الأوليين في مؤخرة الدبابة لتخزين الوقود، وكان قسم منه يخزن في الحجرة نفسها التي تضم الطاقم والذخيرة في التصميم السوفييتي.
فصل الذخيرة عن الطاقم هو اعتراف روسي ضمني، بعد عقود من الإنكار، بصحة الانتقادات التي كانت توجه إلى دباباتهم، بما فيها الدبابتان الأحدث T-90 وT-80 المبنيتان على أساس الدبابتين T-72 وT-64 على التوالي. حيث كان اختراق القذائف المضادة للدروع بدن الدبابة يؤدي، في أحيان كثيرة، إلى احتراق الوقود وانفجار الذخيرة داخلها، وكثيراً ما أدت قوة الانفجار إلى انفصال برج الدبابة عن جسدها، وانقلابه إلى جانبها، أو حتى بعيداً عنها بأمتار عديدة، ولنا أن نتخيل مصير طاقم الدبابة حينها.
وأخيراً، كشف نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، عن أن النماذج الجديدة التي سيتسلمها الجيش الروسي في المستقبل من الـ"T-14" ستحمل مدفعاً من عيار 152مم، يُطلِق قذائف قادرة على اختراق درع بسمك متر واحد. وهذا أمر، إن تحقق، يُسجَّل للمهندسين الروس، حيث أن العيار 152مم يستخدم لمدفعية الميدان، ولم يوضع في السابق قط داخل برج دبابة، لا في روسيا، ولا في أي مكان في العالم (الدبابات الغربية تحمل مدفعاً من عيار 120مم)، وسيكون مدهشاً أن نشاهد مجنزرة تملك سرعة الدبابات وقدرتها على المناورة؛ تحمل، في الوقت عينه، مدفعاً من هذا العيار الثقيل، ويستطيع هيكلها أن يتحمل قوة ارتداده.
ومن بين أبرز مزايا الدبابة الروسية الجديدة، تزويدها برادار يماثل الذي تحمله مقاتلة الجيل الخامس الروسية "T-50"، بحسب تقرير لوزارة الصناعة والتجارة الروسية، كما تم تصميم برجها بانحناءات وزوايا تشبه الموجودة في تصميم الطائرة الشبحية الروسية، والتي من شأنها التقليل من الأشعة الرادارية المنعكسة، ما يشي ربما بأن مصممي الدبابة حرصوا على خفض بصمتها الرادارية، قدر المستطاع.
و"أرماتا" ما زالت أخف من نظيراتها الغربية، إلا أنها أثقل بحوالي الطُنَّين من سلفتها الـT-90. ولا تتوفر معلومات حول تكلفة الدبابة، لكن، هناك أنباء تداولتها بعض وسائل الإعلام الروسية مفادها أن بناء الدبابة الواحدة تكلّف ضعف ما كان مرصوداً على الورق، ووصلت تكلفة الدبابة الواحدة إلى حوالى 8 ملايين دولار، أي تفوق تكلفة معظم نظيراتها الغربية، بعد أن كان ثمن الـT90 أقل من نصف ثمن أية دبابة غربية مجايلة.
التغييرات الجذرية، التي أدخلها الروس على دبابتهم المستقبلية "أرماتا"، أبعد من مجرد تطوير في مجال التسلح، فهي خطوة على طريق تلبية احتياجات روسيا الاتحادية من السلاح الذي يناسب عقيدتها الدفاعية الجديدة، والتي تختلف، إلى حد بعيد، عن التي تبنّاها الاتحاد السوفييتي، حيث راعى السوفييت في تصميم أسلحتهم أن تحقق الفاعلية المطلوبة، بأقل قدر ممكن من التكلفة، والتعقيد التكنولوجي، وبساطة التقنية الميكانيكية، ليتمكنوا من بناء ترسانة أسلحة تضاهي، من حيث العدد والكفاءة، ما لدى الغرب مجتمعاً، على الرغم من تفاوت التراكم الاقتصادي الكبير بينهما. ووفق هذا المبدأ، استطاع السوفييت أن ينشروا في أوروبا، حتى نهاية الحرب الباردة، حوالى 25 ألف دبابة قتال رئيسية، وأكثر من 18 ألف مدفع ميدان، و32 ألف عربة قتالية وناقلة جند مدرعة، و11 ألفاً ما بين طائرة ومروحية حربية.
إلا أن بساطة السلاح السوفييتي وقلة تكلفته كانت، في أحيان كثيرة، (خصوصاً في الدبابات) على حساب البقائية للطاقم البشري. وحاول المُصممون السوفييت التغلب على هذه المشكلة باستخدام حلول مبتكرة، لا تضيف زيادة كبيرة على التكلفة الكلية للدبابة، مثل الدروع النَشِطة، ونظام التشويش الكهرو- بصري، ونظام الحماية النشط "Arena-e".
لم تعد العقيدة الدفاعية التي كان قد اعتمدها الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة تناسب روسيا اليوم، في زمن أضحت فيه أخطار الحرب الشاملة بعيدة، على الرغم من التوتر بين روسيا والغرب، كما أن الأزمة الديموغرافية التي تعاني منها تجعل الحفاظ على حياة الجنود أولوية أولى بالنسبة لها.
لم تعد روسيا القوة العظمى "Super Power" التي كانها الاتحاد السوفييتي، وينحصر طموحها اليوم في الحفاظ على وتعزيز وضعها كقوة كبرى (Great Power)، قادرة على الدفاع عن المجال الحيوي لأمنها القومي، ولديها مصالح عالمية، تعمل على حمايتها وتعزيزها في إطار توازنات القوى الدولية.
لذا؛ تعمل روسيا ضمن خطة التحديث الشامل لجيشها، إلى جانب تحديث نماذج الأسلحة الموروثة عن الاتحاد السوفييتي، على إنتاج أسلحة جديدة كلياً، كانت باكورتها الطائرة الشبحية "PAK-FA/ T-50" من إنتاج شركة "سوخوي"، والعربة القتالية المدرعة "Kurganets-25"، وتبقى منصة القتال المجنزرة "أرماتا"، التي لا مثيل لها في العالم، أيقونة العهد الروسي الجديد في التسلح.