حكاية الرفيق بيير كاردان

حكاية الرفيق بيير كاردان

29 مايو 2016

بيير كاردان (Getty)

+ الخط -

بحسب ما روى لي الأديب المهندس، ماهر حميد، فإن وزارة التعليم العالي السورية طَرَحَتْ، في يوم من الأيام، مُنَاقَصَةً بالظرف المختوم، لاختيار تصميمٍ للزي الجامعي الموحد، يناسبُ طلابَ السنوات الأربع الأولى للكليات النظرية، وطلاب الخامسة والسادسة في كليات الطب البشري وطب الأسنان والصيدلة والهندسة، وتصاميم الدبلـوم والماجستـيـر والدكتوراه.

قبل طباعة الإعلان، وَوَضْعِ نسخةٍ منه في لوحة الإعلانات الخاصة بشؤون الطلاب، استطاع أحدُ موظفي الديوان أن يُسَرِّبَ نسخةً إلى المسيو بيير كاردان الذي كان قد حصل على شهرةٍ عالميةٍ واسعةٍ في تصميم الألبسة، لكن سمعته، في سورية، أخذتْ تتراجع، بعدما أعطى القائدُ التاريخيُّ حافظُ الأسد توجيهاته للحكومة السورية بأن تعمل على تطوير القطاع العام، وهذه التوجيهات تلقفها اللواء عبد الرحمن خليفاوي، رئيس مجلس الوزراء في أواسط السبعينات، وأصدر قراراً يقضي بإحداث "الشركة العامة للألبسة الجاهزة" التي قضتْ قضاءً مبرماً على البطالة، إذ أمرَ سيادةُ اللواء خليفاوي ببناء صالاتٍ كبيرة، وملئها بالعمال والعاملات وماكنات الخياطة والتطريز والحَبْكة، لتنتج عشرات الآلاف من البدلات الرجالية والتنانير النسائية، ويُحَمِّلَها عمالٌ آخرون في شاحنات كبيرة، وينقلوها إلى المستودعات، بقصد تخزينها إلى حين أن تذيع شهرتُها ويبدأ الطلب عليها.

ولكن، سرعان ما بدأت الشركةُ تعاني من الكساد والخسائر، إلى أن ألهم اللهُ تعالى القائدَ الأسدَ بتعيين الدكتور عبد الرؤوف الكسم رئيساً للوزراء، فما كان من هذا الأخير إلا أن أصدر قراراً يقضي بأن يُجْبَرَ العاملون في القطاع العام المستفيدون من تعويض اللباس السنوي على شراء ألبستهم من هذه المؤسسة حصراً، وسرعان ما نفقت الألبسة الكاسدة، وما عادت ماكنات الخياطة في صالات الإنتاج تتوقف عن الدوران.       

المهم: أرسل السيد بيير كاردان إلى وزارة التعليم العالي السورية ما طلبته من أوراق ثبوتية ضرورية للاشتراك في المناقصة، وهي بيان عائلي، وصورة عن السجل التجاري، وشهادة خبرة لا تقل عن خمس سنوات في مجال تصميم الملابس، ووثيقة السجل العدلي (لا حُكْمَ عليه)، وصورة جواز السفر، وموافقة خطية عليها توقيعُه وبصمةُ إبهامه اليسرى، يؤكد فيها استعداده للمثول أمام اللجنة الفاحصة عند الضرورة.

رست المناقصة على بيير كاردان، متغلباً على منافسه الياباني، أوناتاوا هيتو، فجاء على متن طائرة الركاب إليوشن 76 التابعة للخطوط الجوية العربية السورية.. وبلا طول سيرة، قَدَّم للوزارة تصميماً، زعم أنه يناسب جميع الأجسام، السمينة، والنحيفة، وحتى "المُدَعْفَسة"! مع شروحات تفصيلية لحالة الزي، والتركيز على اختيار لونٍ للقماش يناسب جميع ألوان البشرات: البيضاء، والسمراء، والشقراء، والحنطية.

قَلَّبَ الزميل هيثم ضويحي صفحات إضبارة التصميم، وقال لبيير كاردان، بروح زمالية طيبة: بصراحة، يا زميل بيير، تصميمك ما بُه شي. لكن، يجب علينا أن نأخذ موافقة الزميل حامد حسن.

أبدى الزميل حامد حسن ملاحظات مهمةٍ على شكل الياقة، بحيث يصبح مظهرُ الطالب الجامعي الذي يرتديه أكثرَ مقاومةً للاستعمار والإمبريالية والصهيونية من ذي قبل.

ومع أن الشعب الفرنسي، في العموم، نزق، ويتخذ من الديك شعاراً له، فقد أبدى المسيو بيير كاردان الكثير من الصبر، والتحمل، فالزميل حامد حسن كان قد رفع مشروعَ التصميم، مذيلاً بملاحظاته على الياقة، إلى الجهات العليا، راجياً الموافقة. ووقتها، لم يبق بجبوج، ولا بخيتان، ولا أختريني، ولا مشارقة، إلا ووضع حاشيته على التصميم، وبالأخص الياقة. وكانت الأمور ستنتهي لمصلحته، لولا أن خاطبه الرفيق وهيب طنوس باسمه، ولكن مع شيء من التحوير.

استطاع كاردان، بنباهته المعروفة، أن يشم من كلام طنوس رائحة سباب، إذ إنه شقله بنظرة عمودية، من فوق لتحت، ومن تحت لفوق وقال له:

- أنت بيير قَرْدان؟

غضب المسيو كاردان وخرج، وأما الرفيق طنوس فكتب في الحاشية:

الرفيق المدير العام لشركة الألبسة الجاهزة: لإجراء ما يلزم حسب الأصول المرعية. 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...