من أجهض المشروع القومي؟

01 يونيو 2016
+ الخط -
مع أن الكلام عن المشروع القومي، في أيامنا هذه، يبدو وكأنه نوع من الترف، أو أشبه بفسحةٍ في وقتٍ ضائع، إلا أن ما قيل وكتب في الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس- بيكو التي قصمت ظهر العالم العربي، ووُصفت بأنها المسمار الأول الذي دق في نعش المشروع القومي النهضوي الذي حملت بوادره الأولى نخبة سياسيين وعسكريين عروبيين، يستدعي كلاماً يؤشر على مفارقاتٍ في ما قيل ويقال، ويطمح إلى أن يشخص بعضاً من حقائق لم تكن تبدو كذلك ربما إلى حين قريب.
تحاشى بعض ما قيل أو كتب، أخيراً، إلقاء مزيدٍ من اللعنات التي اعتاد المعنيون بالشأن القومي، في الأعوام السابقة، أن يُمطروا بها من وضعا الخطوط العريضة للاتفاقية، الدبلوماسيان، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بل بدا بعض الكلام، المقول والمكتوب، وكأنه محاولة للاعتذار منهما، على وقع أن دعاة المشروع القومي أنفسهم عندما قدّر لهم أن يحكموا البلاد كانوا أكثر جريرةً، وأشد ذنباً منهما، وثمّة من قال إن أولئك الدعاة دقّوا المسمار الأخير في نعش المشروع الذي أصبح في خبر كان.
ويمثل بعض ما قيل أو كتب اكتشافاً متأخراً بأننا قضينا مائة عام، ونحن نوشّح دفاترنا بشعارات المشروع القومي، الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة. مائة عام ونحن نعلّم أطفالنا أن الوطن العربي، من محيطه إلى خليجه، وحدةٌ واحدة لا تنفصم، وأن العدالة الاجتماعية تعني توفير الخبز والكرامة معاً لكل العرب، وأن الحرية تعني رفع القيود عن الفرد العربي، وإتاحة الفرص المتكافئة أمامه للعمل والإنتاج، وأن يكون بإمكانه أن يقول كلمته ويمشي، من دون أن يخشى حاكماً أو سلطة، وأن الديمقراطية هي لعبة تبادل السلطة واحترام صناديق الانتخابات، وأننا، بعد الأعوام المائة، أدركنا أننا نحن، دعاة المشروع القومي والدولة الواحدة، من أجهضنا مشروعنا، عندما توفرت معطياتٌ لم نحاول اقتناصها والإفادة منها، بل العكس، عملنا على طمسها وتغييبها.
وفي بعض الكلام المقول والمكتوب ما يشبه اعترافاً ضمنياً بأنه كان في وسعنا، على مدى الأعوام المائة التي مرت على تأسيس "الدولة الوطنية"، أن نسعى إلى إنضاج "هوية موحِّدة (بكسر الحاء) تشكل أساساً لقيام وحدةٍ عربيةٍ عاقلة، لكننا عملنا على دعم "قُطرية" الدولة الوطنية، وتكريس التقسيم الذي فرضته اتفاقية سايكس بيكو، بل ومارسنا ما أنتج تدميراً لهدف الوحدة وانتكاسة للمشروع القومي. المفارقة التي تثير السخرية، هنا، أن واقعتي التدخل العسكري السوري في لبنان والسيطرة على مقدراته، والغزو العراقي للكويت، تمتا تحت لافتة "المشروع القومي"، وعلى يد أكبر حركةٍ عربيةٍ تمثل هذا المشروع، وتدعو إليه.
لمسنا، في بعض الكتابات أيضاً، محاولةً للإجابة على سؤال بقي معلقاً مائة عام: "كيف استطاع الأتراك تأسيس دولةٍ وطنيةٍ موحدةٍ على امتداد الأرض التركية، فيما عجز العرب عن مثل ذلك، وكيف قدّر للمشروع التركي القومي أن يأخذ مداه كاملاً على يد الزعيم كمال أتاتورك، فيما تراجع المشروع القومي العربي في إقامة دولةٍ عربيةٍ موحدةٍ، كان يريدها الشريف الحسين بن علي، ولماذا أخفقت "الجمعيات السرية" التي سعت إلى ترويج الأفكار العروبية، آنذاك، في استيلاد قياداتٍ مفكرة ومقتدرة على النحو الذي كان عليه أتاتورك، وفشلت في بلورة وعي جماعي باتجاه الدولة الواحدة؟".
وفي بعض ما قيل أو كتب كشف لحقيقة أن الحركة الصهيونية لم تكن، وقت الاتفاقية، قد بلغت من النضج والقدرة على الفعل ما يمكّنها من ممارسة تأثيرٍ ما على واضعيها، لكنها استطاعت لاحقاً أن تمارس دوراً خطيراً في دفع الغرب، وخصوصاً بريطانيا، لجعل الاتفاقية، من الناحية العملية، خطوةً نحو إقامة الدولة الصهيونية، وحصلت، بجهدٍ دبلوماسي منظم، على "وعد بلفور" الذي اعتبر اعترافاً أولياً بدولة إسرائيل، في وقت غاب فيه أي نشاط دبلوماسي فاعل من القادة العرب، للضغط باتجاه تأكيد الحق العربي في فلسطين، ومواجهة التحركات الصهيونية المعادية.
تلك بعض حقائق ومفارقاتٍ تقودنا إلى مفارقةٍ أكبر، هي أننا بتنا اليوم نجاهد من أجل الحفاظ على الخرائط التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، ينتابنا قلقٌ من مستقبلٍ معتم لوطنٍ تعصف به كياناتٌ هجينةٌ لطوائف ومذاهب وإثنياتٍ، تأخذ حدودها على وقع حروب الدم والهوية، وتلك هي مأساتنا!
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"