الغول في المدينة

13 سبتمبر 2016
+ الخط -
أشار على أبنائه وزوجته بالصمت، واضعاً إصبعه على شفتيه، وهو يفتح باب البيت بحذرٍ شديد، بعد أن خلع عنه أخشاب التحصينات التي أنفق يوماً كاملاً على تثبيتها، ثم أخرج رأسه متردّداً، وألقى نظرةً خاطفةً على الخارج، وكم كانت دهشته بالغةً من هول المشهد في الحيّ الفقير الذي يقطنه، إذ كانت الجثث المسحوقة تملأ الشوارع والأرصفة، ولا شيء يجمعها غير الجيوب الخاوية.
هزّ رأسه بأسىً، لأن أهل الحيّ لم يستجيبوا لنصائحه بضرورة الحيطة من "الغول" الذي سيغزو المدينة أربعة أيام، ولم يصدّقوه، على الرغم من أنه سمع الخبر من المذياع، وشاهده على القنوات الفضائية، واستغرب كثيراً، حين وجد أهل الحيّ لا يعيرون للخطر المقبل انتباهاً، وكأن "الغول" مجرد نكتةٍ لا أكثر.
ثم راح يتذكّر كيف بدأ الأمر، في ذلك الصباح الخريفيّ الغائم، وكان يحمل بيده "صينية" القهوة في طريقه إلى غرفة المدير، فيما كان الموظفون، جميعاً، تشخص عيونُهم باتجاه شاشة التلفاز المعلقة في البهو الواسع، بانتظار تحديد أول أيام العيد الذي كان موشكاً على القدوم.
كان يتفقد جيوبه، بين الحين والآخر، فيدهمه الأسى، وهو يتذكّر أن ما يملكه لا يكفي لشراء شيء لأولاده وزوجته في العيد، ولا يدري كيف سيواجههم، بعد عودته إلى المنزل.
وفي حمأة غيابه عمّا حوله، توقف بغتة، وسقطت صينية القهوة من يده، بعد أن تناهى إلى سمعه صوت المذيع المرتجف على التلفاز، يعلن عن نبأ مهم، ظنّه في البداية عن العيد، لكنه سرعان ما اقشعرّ بدنه، حين سمع كلمة "الغول"، فلم يصدّق بدايةً الأمر. ولكن، حين أعاد المذيع تأكيد النبأ بوجه صارم، وهو يقول: "الغول قادم غداً وسيجتاح المدينة أربعة أيام"، لم يعد في وسعه الانتظار أكثر، وأول ما خطر في ذهنه أبناؤه وزوجته، فوجد نفسه، وأمام ذهول الموظفين كلهم، يهرع إلى باب الخروج، لا يلوي على شيء، على الرغم من أنه وقع مرات جرّاء ارتباكه.
دخل منفعلاً إلى بيته، وعلى وجهه ترتسم أمارات ذعرٍ لم يسبق لزوجته وأبنائه أن شاهدوها من قبل، طوال حياتهم، وما إن دخل حتى صرخ بهم: "أيها الأغبياء.. ألم تسمعوا الخبر؟". احتار الأبناء والزوجة، قبل أن يجيبوا: "أي خبر؟".
ازداد احتقانه، وقال: "الغول.. الإذاعة قالت إن وحشاً كبيراً سيصل إلينا غداً، ويتجوّل في بلدنا أربعة أيام، ويلتهم كل فقير تقع عليه عيناه في الشوارع. وعلينا أن نأخذ أقصى درجات الحذر، ومن الأفضل أن ننام في الملاجئ إذا استدعى الأمر، وينبغي أن نغلق نوافذنا بالخشب والطوب، ولا نفتح لأي طارقٍ على الباب مهما كان السبب، هيا.. هيا، لا وقت لدينا لنضيعه، وإلا ابتلعنا الغول".
استغرب أبناؤه وزوجته من النبأ الصادم، وظنوا، في البداية، أن الأمر لا يتعدى واحدةً من طرفه التي يعالج بها همومه المعيشية، غير أن الجديّة التي طبعت وجهه لم تترك لهم مجالاً للتأويل والتفسير، ومما زاد من امتعاضهم أنهم كانوا ينتظرون عودته بفارغ الصبر، كي يصطحبهم لشراء الملابس والأحذية الجديدة، استعداداً للعيد، لكنه باغتهم بهذا النبأ الغريب.
انتقل الذعر إليهم بسرعة، فتجاوزوا ارتباكهم، وراحوا يساعدونه في تحصين البيت، قبل مجيء "الغول"، وإغلاق كل منافذه.
نفض الذكرى من رأسه، وأعاد التلفت ثانيةً، لأنه لم يكن واثقاً بعد من مغادرة "الغول" المدينة، وانتظر دقائق أخرى. لكن، كان واضحاً أن "الغول" أخذ حاجته وشبع من ضحاياه المنعوفين في كل مكان، فيما كانت جيوبهم تتدلّى خارج ملابسهم المهترئة كأحشاء الدجاج، شاهداً على وحشية المجزرة التي اقترفها الغول.
خالطه مزيجٌ من الحزن على الضحايا الذين "لا يسمعون الكلام"، والبهجة لأنه "سمع الكلام"، فنجا مع زوجته وأطفاله، ثم هتف بهم: "هيا اخرجوا.. رحل الغول".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.