تراجع اليسار في أميركا الجنوبية بعد تنحية روسيف

13 سبتمبر 2016

احتجاج حاشد في ساوباولو على تنحية روسيف (4/9/ 2016/Getty)

+ الخط -
بعد اعتماد الاتهامات الموجّهة لرئيسة البرازيل ديلما روسيف، وأهمّها التصرّف بالموازنة الحكومية من دون الحصول على ولاية مباشرة من البرلمان، واستخدام جزءٍ من الموازنة لتمويل حملتها الانتخابية، صادق مجلس الشيوخ البرازيلي على عزل ديلما روسيف وتنحيتها عن منصبها رئيسة لقرابة 200 مليون مواطن برازيلي، ما اعتبره أنصارها وأصدقاؤها السياسيون بمثابة "انقلاب برلماني، عار وطني، ضربة ضدّ الديمقراطية"، وغيرها من الشعارات الرافضة هذا القرار، وذهبت روسيف إلى أبعد من ذلك، حين صرّحت أنّ المجلس لم يلتزم بدقّة بكل المتطلبات الدستورية لإصدار هذا القرار.
يذكر أنّ قضية تنحية روسيف تمّ تداولها وتمحيصها من ممثلي قطاع القضاء بالتفصيل المملّ، وناقشتها غرفتا البرلمان البرازيلي، وانتهت بعد نحو تسعة أشهر بتصويت مجلس الشيوخ بتنحية الرئيسة روسيف، حيث صوّت لصالح القرار 61 عضوًا في مقابل 20 عضوًا صوّتوا ضدّ القرار. عمليًا صوّت ثلثا أعضاء المجلس البالغ تعداده 81 عضوًا على قرار تنحيتها، ليصبح القرار نافذًا، حسب بنود الدستور البرازيلي. وشارك ريكاردو ليفاندوسكي رئيس المحكمة العليا في مداولات القضية ذات الأهمية الدولية، وأتيح المجال لروسيف أن تدافع عن نفسها بكلمة مطوّلة، شرحت فيها وجهة نظرها بشأن الاتهامات الموجّهة إليها، لكن القرار النهائي جاء لصالح تنحيتها، وسيتولى نائبها ميشال تامر منصب الرئاسة ما تبقى من ولايتها حتى العام 2018.


كساد اقتصادي وفضائح سياسية
لم تتمكّن الرئيسة روسيف من إثبات حضورها بقوّة، وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة من ولايتها تراجعًا كبيرًا على المستوى الاقتصادي، على الرغم من تمكّن البرازيل من النجاة في خضمّ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 - 2009، بل على العكس، حقّقت البرازيل، في بداية القرن الحالي، نموًا اقتصاديًا مكّنها حتّى من المطالبة بمقعد دائم لدى مجلس الأمن في الهيئة الأممية.
تعرّضت البرازيل، في السنوات الثلاث الأخيرة من ولاية ديلما روسيف، لكارثة اقتصادية لم تشهدها في العقود الثلاثة الماضية، وانخفض معدّل النمو الاقتصادي إلى قرابة 8% من قيمة الدخل القومي، وارتفع حجم الدين العام للحكومة البرازيلية إلى نحو 67% من قيمة الدخل القومي، ما يفوق بكثير حجم الديون التي تعاني منها فنزويلا المنهارة اقتصاديًا، وارتفع حجم البطالة بين فئات الشعب إلى مستوياتٍ قياسية غير مسبوقة.
كما تعاني البرازيل من تبعات فضيحة الفساد السياسي التي اندلعت خلال العام الماضي 2015، ولم تهدأ زوبعتها بعد. وحسب منظمة الشفافية الدولية، تعدّ هذه الفضيحة الثانية حول العالم، من حيث الحجم والأثر الكبير الذي أحدثته. وعانت شركة النفط العملاقة “Petrobras” التي يبلغ حجم تبادلها التجاري نحو 150 مليار دولار سنويًا الكثير، لتورّطها في هذه الفضيحة، ما أدّى إلى زعزعة استقرار النخبة السياسية وجزء من قطاع العمل الكبير، بعد أن تبيّن حصول كوادر قيادية للشركة على رشوات مالية كبيرة الحجم من شركات البناء، وتحويل جزء منها إلى صناديق التحالف السياسي القائم. ووقعت العقود المعنية في الفترة 2004 – 2012، وبلغ حجم الأموال المعنية قرابة أربعة مليار دولار، حولّت بطرق بنكية ملتوية وغير تقليدية لصالح التحالف السياسي بزعامة اليسار الحاكم. 
وعلى الرغم من أنّ بدايات هذه الفضيحة تعود إلى مطلع القرن الحالي، قبل تولّي روسيف مقاليد الرئاسة، إلا أنّها طاولت كثيرين من رجال السياسة المقرّبين إليها، بما في ذلك الرئيس السابق ومعلّمها الروحي، لويس لولا دا سيلفا. لذا، خسرت ديلما وحزب العمال الذي تنتمي إليه كثيراً من ثقة الشعب، ولم تتمكّن الرئيسة المخلوعة من تخطّي هذه العقبة، ربّما لافتقادها الخبرة التي يتمتع بها المعلّم دا سيلفا صاحب الكاريزما الجذّابة، ما ساعده على إدارة البلاد من دون تدخّل الأحزاب السياسية المختلفة، وكان من المتوقّع أن يتخطّى هذه الأزمة، لو بقي في سدّة الحكم، لكن الدستور البرازيلي حال دون توليه ولاية رئاسية ثالثة. وقد نجحت ديلما روسيف في إثبات نفسها رئيساً إدارياً تكنوقراطياً جيّداً، لكنّها فشلت في إثبات نفسها زعيماً سياسياً، ولا يمكن لرئيس دولة أن ينجح دون امتلاكه المهارة والقدرة على الإدارة، ويصعب بقاؤه كذلك حال غياب العامل القيادي وإظهار الرغبة بالحوار مع الأحزاب الأخرى، ومع فئات المجتمع المختلفة. والملاحظ أنّ روسيف فضّلت الظهور ضحية مؤامرة سياسية، الأمر الذي لا يليق ولا يتوافق مع مهام رئيس دولة كبرى بحجم البرازيل. وخسارة روسيف فادحة لليسار السياسي في البرازيل ولليسار في معظم دول أميركا الجنوبية.
في هذا السياق، فضّلت التكتّلات السياسية العشرة المشاركة في قوام التحالف الحكومي في البرازيل نقض الولاء السياسي لديلما روسيف ولحزب العمال الذي تنتمي إليه، والممثّل في البرلمان بسبعين نائبًا فقط من تعداده البالغ 513 في الغرفة السفلى للبرلمان. وقد أعلن الحليف الأساسي لحزب العمال، حزب الحركة الديمقراطية البرازيلية، في 29 مارس/ آذار الماضي، انسحابه من التحالف الحكومي، وهو الحليف المقرّب لحزب العمال منذ العام 2003، تبعته التكتّلات والأحزاب الأخرى. وفي أبريل/ نيسان، صوّت 317 نائبًا لبدء عملية تنحية روسيف من منصبها، وعارض هذه التوجّهات 115 نائبًا فقط، على الرغم من أنّ للائتلاف الحكومي 370 نائبًا في الغرفة السفلى للبرلمان، لتجد السيدة الحديدية، كما كانت تسمّى نفسها، وحيدة في أثناء عملية التنحية القاسية، وكان للأغلبية السياسية وللرأي الشعبي البرازيلي ما أراد.

ردود الفعل الشعبية والدولية
يتوجّب على اليسار أن يثبت حضوره ويستعيد قوّته في البرازيل ودول أميركا الجنوبية. لذا، خرجت الجماهير المناصرة لروسيف في مظاهرات واعتصامات صاخبة وعنفوية في ساو باولو، أدّت إلى مواجهات مع الأجهزة الأمنية، حسب ما نقلته وسائل الإعلام، والتي بثّت لقطات لمجموعات مقنّعة أقدمت على تحطيم واجهات أحد البنوك وغيرها من مباني المرافق العامّة. وألقى المتظاهرون الحجارة تجاه رجال الأمن، مردّدين هتافات ضدّ الرئيس الجديد ميشال تامر، واستخدم رجال الأمن الغاز المسيل للدموع والقنابل الرادعة. وانتشرت أعمال العنف لاحقًا في معظم أنحاء البرازيل في الأيام التي تبعت تنحية ديلما روسيف.
وقد صرحت فنزويلا عن تجميد علاقاتها مع البرازيل، بعد تنحية روسيف، واستدعى رئيس الإكوادور، رفائيل كوريا، القائم بأعمال بلاده في البرازيل في مايو/ أيار، بعد العزل المؤقّت للرئيسة روسيف، حسب وكالة فوكوس. ووصف كوريا ما حدث بأنّه خيانة وسوء استخدام للسلطة، وقال إنّ الأحداث التي تشهدها البرازيل تذكّر بأسوأ اللحظات التي مرّت بها أميركا اللاتينية، وأقرّ بأنّ بلاده لن تعترف بقرار عزل روسيف وتنحيتها. واستدعى الزعيم البوليفي إيفو مورالس سفيره في البرازيل أيضًا، احتجاجًا على تنحية روسيف، وكتب في موقع تويتر "ندين الانقلاب البرلماني ضدّ الديمقراطية البرازيلية، نحن مع ديلما ومع لويس دا سيلفا ومع الشعب البرازيلي، في هذه الساعات الصعبة". وردًا على هذه الإجراءات، استدعت الحكومة البرازيلية "للاستشارة" رؤساء بعثاتها الدبلوماسية في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور، حسب تصريحات وزارة الخارجية نقلا عن "رويترز". في الوقت الذي أكّدت فيه الولايات المتحدة الأميركية عن دعمها العلاقات مع البرازيل، حسب تصريحات المتحدّث باسم الخارجية الأميركية جون كيربي الذي قال إنّ المؤسّسات الديمقراطية في البرازيل لم تتجاوز حدودها، والتزمت بنود الدستور الوطني. وقد شكر الأمين العام للأمم المتّحدة بان كي مون الرئيسة المخلوعة ديلما روسيف على الدعم الذي قدّمته للهيئة الدولية، متمنيًا للرئيس الجديد ميشال تامر النجاح في مهامه.


الكساد الاقتصادي والبطالة
من المقرّر أن يكمل ميشال تامر نائب الرئيسة روسيف ولايتها حتى العام 2018، وهو يمتلك خبرة واسعة في أروقة البرلمان، لكن شعبيته محدودة، وتعمّدت إدارة "البارالمبية" لبطولات المعاقين عدم ذكر اسمه في حفل الافتتاح في ريو دي جنيرو، بعد يوم من الإعلان رسميًا عن تنحية ديلما روسيف، لتجنّب الإحراج أمام الجمهور البرازيلي الذي كان متوقعاً أن يهتف ضدّه. وحين اضطرّ لإلقاء كلمة مقتضبة، أطلق كثيرون من منظمي حفل الافتتاح صافرات احتجاج، كيلا تستمع وسائل الإعلام لحديثه في الملعب الدولي ماراكانا، واستخدمت الألعاب النارية لتغطية الصخب والسخط الشعبي المعارض، لتسلّمه مقاليد السلطة مكان الرئيسة المعزولة.
تمتلك حكومة ميشال تامر وقتًا محدودًا على أيّة حال حتى العام 2018، للتعامل بنجاح مع المهام الصعبة، وحلّ قائمة كبيرة من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي يتطلب اتخاذ تدابير غير تقليدية، وتطبيق سياسة شدّ الأحزمة، والتقيّد في الوقت نفسه، بالالتزامات الاجتماعية التي قطعتها على نفسها روسيف، وسلفها الرئيس اليساري لولا دا سيلفا. مهمة تامر شديدة الصعوبة، ومن الصعب التوفيق ما بين سياسة شدّ الأحزمة والالتزامات الاجتماعية في ظلّ تفشّي فساد إداري على مستوى واسع في البرازيل، الأمر الذي أثّر سلبيًا على حزب تامر أيضًا (الحركة الديمقراطية البرازيلية)، ولا توجد أمامه خيارات كثيرة سوى الاعتماد، بصورة أساسية، على قطاع القضاء الذي أثبت دوره الحازم في ملفي شركة بتروبراس وتنحية روسيف. لكن، هل سيجرؤ الكاردينال الرمادي، كما تصفه وسائل الإعلام، على مواجهة مظاهر الفساد بصورة حاسمة، وقد ثبت تورّط قرابة 50 نائبًا برلمانيًا ورجال أعمال كبارا وقادة سياسيين في صفقات مالية مريبة.
في الوقت الذي تعاني فيه السلطة التنفيذية والدستورية من أزمةٍ واضحة في البرازيل، تحوّل القاضي والمحقّق الفيدرالي، سيرجيو مورو، بطلاً قومياً، بسبب جرأته ونجاحه في الكشف عن تفاصيل فضيحة شركة بتروبراس، وحقّق شعبية يحسده عليها كثيرون من قادة البرازيل السياسيين.
يصعب توقّع مستقبل الأحداث في هذا البلد. لكن من المتوقع خسارة حزب العمال في انتخابات الرئاسة المقررة في 2018، وتبدو حظوظ ديلما روسيف بالفوز في الانتخابات المقبلة ضئيلة للغاية، وليس متوقعاً أن يحقّق لولا دا سيلفا النجاح والتألق فيها، إذا قرّر ترشيح نفسه، وهو الخاضع لعمليات تحقيق ومساءلة لاستخدام منصبه الرئاسيّ السابق لتحقيق مصالح شخصية، بهذا خسر هذا القائد الكثير من الكاريزما التي يتمتّع بها، وهي رأسماله الذي طالما اعتدّ به. عدا عن ذلك، يصعب على دا سيلفا أن ينتحل دور "بائع الآمال" مجدّدًا للشعب البرازيلي في ظلّ الأزمة الاقتصادية الحادّة التي تمرّ بها البلاد، وهو الدور الذي أتقنه جيّدًا خلال العقد الماضي.
باتت البرازيل ما بعد ديلما روسيف مختلفة تمامًا، وسيترك حدث تنحية روسيف أثرًا سلبيًا واضحًا على دور التيارات اليسارية ومكانتها في دول أميركا اللاتينية التي شهدت انتعاشًا لهذه الأحزاب خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، علمًا أنّ ثلثي قارة أميركا الجنوبية قد خضعت لسلطة اليسار. ومن الدول المعنية البرازيل، فنزويلا، بوليفيا، الإكوادور، نيكاراغوا، الأرجنتين، الأورغواي، تشيلي والسلفادور.

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح