ليس دفاعاً عن الصحفيين السودانيين

30 ابريل 2017
+ الخط -
تظلّ العلاقات السودانية المصرية أكثر الملفات تعقيداً وارتباطاً بعدّة تأثيرات ومعطيات، لكنها، في الفترة الماضية، شهدت توترات شديدة أعادت إلى الأذهان ما حدث في تسعينيات القرن الماضي من قطيعة وسحب للسفراء من الجانبين.
عندما ارتفعت حدّة التراشق الإعلامي الذي ابتدرته وسائل الإعلام المصرية، ردّت صحف الخرطوم بعنف (للمرة الأولى)، وهو ما أثار دهشة مصر، حكومة وشعباً، لأنها اعتادت على ردود الفعل السودانية الضعيفة في مثل هذه الحالات.
لم تقف غضبة الصحفيين السودانيين عند حدود الدفاع عن حضارة البلد وآثاره وتاريخه، بل تعدّته إلى المطالبة باستعادة مثلث حلايب المتنازع عليه، والذي تسيطر عليه مصر منذ العام 1995، كما تواصلت على مواقع التواصل الاجتماعي حملات شبابية سودانية تطالب بإلغاء اتفاقية "الحريات الأربع" التي أقرّتها الخرطوم والقاهرة منذ العام 2004 إلا أنّ مصر لم تنفذها بالكامل، فظلَّت تفرض على السودانيين تأشيرات الدخول. أسفر الغضب الشعبي والحملة الإعلامية عن إصدار السلطات في الخرطوم قراراً بفرض تأشيرات الدخول على المصريين الذكور، مبرّرةً القرار بأنه معاملة بالمثل.
من أبرز الصحفيين السودانيين الذين نشِطوا في المطالبة باستعادة حلايب، الطاهر ساتي الذي يكتب في صحيفة الانتباهة التي تصنّفها المخابرات المصرية "معادية"، وقد لمع اسم ساتي في الأيام الماضية، بعد أن احتجزته الجهات الأمنية في مصر ساعاتٍ في مطار القاهرة، ومنعته من الدخول لمقابلة أسرته التي سبقته إلى هناك، حدث ذلك على الرغم من مرور 72 ساعة فقط على توقيع وزيري الخارجية في البلدين ميثاق شرف لضبط التناول الإعلامي.
ربما يقول قائل إنّ السماح لشخصٍ ما أو منع دخوله شأن سيادي تمتلكه كلّ دولة، هذا صحيح، لكنّ الأعراف الدولية نفسها تقتضي ترحيل الشخص المعني فوراً، طالما أنّه غير مرغوب فيه، وليس احتجازه في مخافر أمنية، كما حدث مع الطاهر ساتي، وكاد أن يحدث، مع زميلة أخرى، هي الصحفية في جريدة السوداني، إيمان كمال الدين، التي جاءت القاهرة بدعوةٍ رسمية للمشاركة في مؤتمر إعلامي.
تكمن الخطورة في أنّ المخابرات المصرية بطريقتها هذه، تُصنّف الصحفيين السودانيين وتقسّمهم حسب كتاباتهم إلى مجموعتين: معادية وهي الأغلبية من الإعلاميين، وأخرى مهادِنة أو موالية لمصر. إذ تتحدّث مصادر عن متابعة السفارة المصرية أو جهات تابعة إليها لكلّ الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية في السودان، وبناءً على ذلك، يتم تصنيف الصحفيين والكُتَّاب إلى إحدى المجموعتين.
المُثير أنّ المخابرات المصرية تنسِب حالة العدائية التي يشهدها السودان ضد القاهرة إلى الطاهر ساتي ورفاقه الذين يرون أنّهم يقومون بواجبهم في الدفاع عن وطنهم، وحقه في مثلث حلايب، كما يعتقد قادة الأمن المصري أنّ ساتي، وغيره من الصحفيين، أثّروا على العقل الجمعي السوداني في موضوع سد النهضة الإثيوبي، حتى أصبح السودانيون ينتظرون اكتمال السد أكثر من أصحابه. ولهذا، قرّرت المخابرات المصرية محاربة هؤلاء الصحفيين بالاحتجاز والمنع من دخول القاهرة بعد حصولهم على التأشيرة المسبقة من السفارة المصرية، ووصولهم إلى المطار إمعاناً في التسبّب لهم بخسائر مادية بجانب الإذلال النفسي والمعنوي الذين يتعرّضون إليه.
لم تكن حالة العداء لمصر الرسمية والإعلام المصري في السودان بسبب الطاهر ساتي، ولا إسحاق أحمد فضل الله الذي يصف الإعلام المصري بأنّه أسوأ ما عرفت البشرية من إعلام!، وليست بفعل السخرية من الحضارة والآثار الوطنية السودانية، بل هي نتاج لتاريخ ممتد من النظرة الدونية والاستعلاء الثقافي، ظلّت تمارسه النخب السياسية المصرية والإعلام المصري تجاه السودانيين عموماً، غير أنّ الجيل الرقمي الجديد في الخرطوم تبنَّى مبادراتٍ للضغط على القاهرة، أثمرت بالفعل عن اتخاذ السلطات السودانية قرارات بمنع استيراد السلع الغذائية المصرية وفرض تأشيرة دخول على الذكور، ثم اتجاه بوصلة حكومة البشير نحو دول الخليج، بموازاة التقارب مع إثيوبيا الذي أُطلق عليه لأول مرّة لفظ التكامل، إذ كانت عبارة (التكامل) حصريةً على مصر في المخيّلة السياسية السودانية.
أزمة العلاقات السودانية المصرية المتدهورة أعمق وأكبر من أن يُصعدها إعلاميون سودانيون، مثل الطاهر ساتي وإيمان كمال، الذَين أوصدت السلطات المصرية الأبواب في وجهيهما، بعد وصولهما إلى المطار، فالسودان اليوم لم يعد ذلك البلد الذي تعوَّدت عليه مصر سابقاً. لذلك، لن تُحل الأزمة إلا بمعالجة قضية حلايب، عن طريق المفاوضات المباشرة أو عبر التحكيم الدولي، فضلاً عن ضرورة توجيه مراكز البحوث، من أجل وضع محدّدات واضحة لشكل العلاقة بين الدولتين، التي ينبغي أن يكون أساسها مبنياً على المصالح المشتركة والندية الكاملة، بعيداً عن العبارات العاطفية على شاكلة "علاقات أزلية وتاريخية" و"تاريخ مشترك".
71F29908-DD1C-4C71-A77C-041E103F4213
71F29908-DD1C-4C71-A77C-041E103F4213
محمد مصطفى جامع
كاتب سوداني.
محمد مصطفى جامع