ثورة "الجزيرة"

07 اغسطس 2017
+ الخط -
هل ستسهم قناة الجزيرة في إعادة التشكيل العالمي؟ ليس السؤال لدول حصار قطر في ظل الهجوم على "الجزيرة" بتهمة التحريض، في أحد المطالب الـ 13 الباطلة اللاغية، فهو سؤال فوق قصور تفكير هذه الدول، بل هو لبروفيسور الصحافة والدبلوماسية في جامعة كاليفورنيا الجنوبية، فيليب سيب، في كتابه "تأثير الجزيرة".
أثر الإعلام في الحَراك السياسي.. طرح منهجي وصحّي في علم الإعلام وتخصصاته المتداخلة من السياسة وعلم الاجتماع، فالحراك لا يعني الثورة، بقدر ما يعني التنوير وبث الوعي في المشاركة السياسية والديمقراطية. هو الوجه الآخر للعملة في نظرياتٍ ناقشها الخبراء قبل "عصر الجزيرة". لذلك جاء عنوان سيب الفرعي "كيف يعيد الإعلام العالمي الجديد تشكيل السياسة الدولية؟". الفرق أن مؤلف الكاتب، بتناوله "الجزيرة"، يؤطر بها دخول العرب سباق التنافس الإعلامي، بعد التحكم القطبي لتدفق المعلومات، حيث ظل الإعلام الغربي يملي على المشاهد العربي ما يراه هذا المشاهد عن نفسه، وعن قضاياه المصيرية. وقد أطلق سيب على تلك الفضائيات "النسل الجديد" من اللاعبين في التأثير في السياسة الدولية... في طرح متعارف عليه قبل ثورات الربيع العربي، وهو ما أزعج مبتدئي ثقافة الإعلام من عرب الحصار الذين، رغبة منهم في التنافس مع "الجزيرة"، اجتهدوا لأن يصنعوا مثلها منذ بداية الألفية، فعجزوا، وجاءت بضاعتهم أضغاث أحلام من قنوات "الأكاذيب"، وعندما يئسوا من أن يأتوا بمثلها، اجتهدوا إلا أن يخنقوها ويصادروها.
أثر الإعلام تصدقه أيضا أطروحات كتّاب دول الثورات أنفسهم، كما جاء لدى الباحث المصري صفوت العالم في "دور وسائل الإعلام في مراحل التحوّل الديمقراطي.. مصر نموذجا" (2013)، إذ "تعكس وسائل الإعلام طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفقا لفلسفة النظام ودرجة الحريات الممنوحة"، خصوصا في ظل تأثير الإعلام الجديد في دعم الديمقراطية.
ركز سيب على قوة الإعلام في تشكيل العالم، وهو يكتب عن الإعلام الجديد الذي ضم، في نسخته الأولى، الفضائيات، عند إصدار كتابه عام 2008، وهو يشرح امتداد تأثير "الجزيرة" الواضح في مناطق بعيدة عن الشرق الأوسط، متنبئاً أن تتولد عنها تأثيرات تستحق اهتماما خاصا. هنا تتقدم "الجزيرة" سباق النفوذ قوة إعلامية مهنية خطت طريقها.

لعل هذا ما حدا بجهات يهودية عالمية في ذروة الربيع العربي إلى الدعوة إلى إطلاق "جزيرة يهودية" في ندوة عقدت في جامعة تل أبيب في 15 إبريل/ نيسان 2011، رأى فيها بروفيسورا الدراسات الدولية، رعنان راين ويوسي شاين، "دليلا على قوة الجزيرة"، ليس لأنها صاغت، إلى حد بعيد، تغطية الاحتجاجات في الشرق الأوسط"، بل لأنها أيضا "تلعب دورا مركزيا بفضل مناهضتها الولايات المتحدة وإسرائيل".
باتت قوة "الجزيرة" حديث الجميع، بل مصدر تحدّي الجميع، فغدت المنافس للغرب و"البُعبع" للشرق، وهذا ما يؤكد مهنيتها، فهي تسحب بساط التدفق من تحت أرجل الغرب، وتتحدث، بفكر تنويري توعوي، لم تعتده الحكومات العربية في الشرق، فيسميه بعضهم "تحريضا لقلب أنظمة الحكم"، حتى باتت دول حصار قطر اليوم ترمّز لها في مخاطبة قطر بـ "طفح الكيل"، وقصة الصبر العشرين، في إشارة إلى عمر "الجزيرة" التي قامت في العام 1996.
وما يراه بعضهم طفحاً يراه العالم المتقدّم عشرين ربيعا، في وقت نسي أو تناسى بعض من يتشدّقون بأنهم سياسيون، أو خبراء عرب، كيف أن رئيس فنزيلا السابق هوغو تشافيز قد أنشأ القناة الإقليمية "تيليسور" على نمط "الجزيرة"، بعد أن سئم من التحكم في المعلومات وطرح القضايا الوطنية من زاوية عوراء، معللا بـ"أنها لمواجهة دكتاتورية الشبكات الإعلامية العالمية"، وكما شرحها مدير القناة: "لكي نرى أنفسنا بأعيننا، وأن نكتشف حلولنا الخاصة لمشكلاتنا". وهذا يدحض خرافة حديث ما يعتقده بعضهم "مؤامرة الجزيرة" في زمن الثورة الرقمية التي قدمت النسخة الثانية من ثورة الإعلام الجديد الذي أعطى كل مواطن قنواتٍ، لا قناة واحدة فقط، كلها رهن إشارة ضغطة زر من إصبعه.
كانت "الجزيرة" التي تغضبهم ثورة أيضا على الثورة الرقمية، لأنها أول من استقطب تداخلية منصات الإعلام الجديد، في تغطياتها إبّان الثورات العربية، إذ سبقت فيها كل منصات الإعلام الغربي، وهذا فخر للعرب قاطبة، بل وفتحت بعد الربيع ربيعا في منبر تفاعلي مباشر لمحو الأمية الرقمية للعرب، كما أشار الكاتب جانكو رويتغيرز في مقاله في 8 مارس/ آذار 2012 "كيف قدمت الجزيرة تويتر للعالم"، فدشنت عام 2012 حملة متعددة اللغات، عبر قناة تعليمية في "يوتيوب"، وغيره للتوعية والتمكين في مجال صحافة المواطن التي باتت فوق التمكين المهني تمكينا اقتصاديا، فتح بابا من العمل الصحافي المهني الحر لمنطقتنا، لم يكن مطروحا من قبل.
يؤكد خبراء الإعلام قوة الإعلام "السلطة الرابعة" فوق السلطات الثلاث، ولكن هناك من يريد لشعوبه، في حملته ضد"الجزيرة"، غير ذلك، لأنه ببساطة لا يراهم إلا عبيدا للسلطة. ففي كتابه "الإعلام والانتفاضات العربية في 2011"، أكد كوتل "تبني الإعلام التقليدي موقفا أكثر استقلالية مما يشكل خروجا واضحا عن وجهات النظر التي تقدمها النخبة السياسية". إنه الخروج عن الخنوع لما يريد بعضهم لشعبه الوقوع أسرى له، وأخباره لا تتعدى الكذب والتزييف، أو التعتيم على الآخر، أو نقل أخبار معلّبة قوامها "استقبل وودع" و"عاش الملك المبجّل"، في ظل ما تريده دول الثورات المرتدّة من استبداد سياسي، بل وفكري أيضا.
نوه آلن فيشر، وهو صحافي مخضرم، في فصل له من كتاب "سراب في الصحراء.. التغطية الإعلامية أثناء الربيع العربي" إلى شيء مهم، وهو "خطر إمكانية أن توجه هذه الحكومات أسلحتها إلى شعوبها". وأكّد دورالإعلام الجديد و"الجزيرة" والثورات العربية في مسح نظرية المؤامرة، وإثبات "كيف ولّت تلك الأيام التي كانت الحكومات تعتقد أنها تستطيع كسب معركة الدعاية من خلال إغلاق أجهزة البث أو السيطرة عليها".
لم يستوعب بعض عربنا الوعي الفكري المتقدّم القادم من الشرق، وبرؤية ثاقبة من زعيم عربي خليجي سبق فكره عصره، والمتمثل في تجربة "الجزيرة" ومنافستها الغرب، بل وسحبها بساط الإعلام منه منذ نشأتها، بل لم تهيئ أرضيات دول الحصار +1 لمثل هذا الوعي "غيرة وحقداً"، بل "خوفاً" نظراً لهشاشة الأرضية الوطنية في العلاقة بين المجتمع والدولة في دولهم، بخلاف متانة العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي تنعم بها دولة قطر سياسيا واجتماعيا، ولذلك اتهموا زعيم الوعي العربي، أمير قطر السابق الوالد حمد بن خليفة آل ثاني، باتهامهم "الجزيرة"، فاتهموا قطر، فطفح كيلهم ولسانهم، بل طالت يدهم فعاقبوها. والغريب أنه لم يطفح إلا بعد عشرين عاما، أي في توقيت مسيّس، تم فيه لي أعناق القضايا بفجور ودعايات إعلامية مغرضة، لتطويع شعوبهم، وتغيير الصورة الذهنية وإلهائهم بافتعال أزمات خارجية، من أجل إحداث تغيير سياسي رئيس، داخل دولهم، ليس له أرضية دستورية سياسية، وقّت أحده في ليلة القدر، ربما ليكسب جلباب المباركة الدينية في بلد ديني، أريد له، بعد أداء دور الدين
المؤقت خلعه، ولبس دور الدنيا بالتمهيد لـ "العلمانية"، على لسان المدبّر الأكبر. وستتضح الأخرى في ليلة أخرى، تنتظر قدرا آخر في دولة جارة، سبقها قمع شعبي منظم، إعلامي ومدني.
إنهم يخشون "الجزيرة"، لأنهم يخشون القوة الناعمة التي تمثلها، وما فطنوا إلى أخواتها من مواليد العصر الرقمي في يد مواطنيهم. باختصار، إنهم يخشون شجاعة المواطن، يخشون صوته. لذلك غيبوا "الجزيرة" عن مواطنيهم، بل تطاولوا على حقوق سيّاح دولهم بمنعها في الفنادق. كما أصبح الإعلام الاجتماعي لدى دول الحصار أعرج، عندما حوّلته من أداة في يد المواطن إلى سوط مسلط على رقابهم. ولن يطول ذلك، لأنه قمع موجه ضد قضية إنسانية واحدة "منع التعاطف مع قطر أو شعبها"، وفي بلدانهم عجاج من القضايا الحقوقية والانتهاكات الداخلية التي ما زالت تشكل ترندا عالميا على الإعلام الرقمي، ولن يستطيعوا قمعه.
تحضرني، هنا، مقولة مهمة للصحافية المصرية، منى الطحاوي، عن ثورة 25 يناير في مصر، في "ندوة الإعلام الإلكتروني في ظل الثورات"، في المركز الدولي للصحافيين في واشنطن في فبراير/ شباط 2011: "إن وسائل الاعلام الاجتماعي ساعدت الناشطين في التواصل مع بعضهم، لكنها لم تخترع الشجاعة". وظاهرة انتصار "الجزيرة" جديرة بالتأريخ بها، كما أرّخ العرب لنجاح عبور خط بارليف وحرب 1973، فحقّ لشباب العشرين أن يفخروا بأنهم من مواليد "عصر الجزيرة"، أو قل إنهم جيل "ثورة الجزيرة الإعلامية". وعلى من سئم من قطر وحاصرها وطالبها بإغلاق "الجزيرة" أن يراجع طريقة تعليمه ومستواه، قبل التوجس من معطيات السياسة، بل عليه قبلها أن يراجع عدالته في شعبه، ويقوي لبنة العلاقة في وطنه بين المجتمع والدولة.
Twitter :@medad_alqalam
36E7A5AB-5C4F-4CC3-A27F-F8C022C765BC
36E7A5AB-5C4F-4CC3-A27F-F8C022C765BC
مريم الخاطر

كاتبة وباحثة قطرية، دكتوراه في أثر الإعلام الجديد "الاجتماعي" على التحولات السياسية في منطقة الخليج العربي. متخصصة في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية. محاضرة في جامعة قطر، لها عدة مؤلفات.

مريم الخاطر