24 أكتوبر 2024
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. الهدية الثمينة للأمة
أفضت المبالغة في إطلاق صفة "تاريخي" على أحداثٍ نافلة إلى ابتذاله بخلط "أوهام الأهمية" بالأهمية. فعسى أن يكونَ نعتُ لقائِنا اليوم بالتاريخيّ مساهمةً في إعادة الاعتبار لهذا الوصف. أقول هذا بسعادةٍ واعتزازٍ يقدّرهما من يعرف التواضعَ إزاء حجم المسؤولية وثقلها.
أقف اليوم أمامَكم لأعلن إطلاق المرحلة الأولى الأهم من المعجم التاريخي للغة العربية، والتي تغطي سبعَمئةَ عامٍ من تاريخ لغتنا، من النقوش المكتشفة الأولى حتى نهاية القرن الثاني للهجرة.
خلال عامين، أُرسيتْ أسسُ المعجمِ وصُمّم منهجُه، وتمّ رسمُ المسارِ وشقُّ الطريقِ، وثُبِّتت السكةُ، ثم قطع عليها قطارُ المعجمِ مسافةَ سبعَمئةَ عام في ثلاث سنوات تلت. وهو زمنٌ قياسيٌ مقارنةً بأي معجمٍ تاريخي من معاجم اللغات الأخرى.
ترتبط المعاجمُ التاريخيّةُ في جميع اللغات بالنهضة والتنوير، لأنّ اللغة صنوٌ لنهضةِ أيِّ أمّة، ولأنّها تلتفتُ إلى التاريخ من زاوية قبول فكرة التغيّر والتطوّر. هكذا نفهم اهتمام النهضويين بأصول اللغة، وانتشار الأبحاث في العائلات اللسانية في أوروبا، القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويكمن الفرق بين النزعة التاريخية النهضوية التنويرية والنزعة التاريخية الرومانسية في أنّ الأولى لا تعود إلى الماضي نكوصًا لتكريس صورةٍ عن عصرٍ ذهبي لا يتلوه إلا الانحطاط، ولا من أجل بلورة ما تعتبره شخصيةَ الأمةِ وروحَها، بل لكتابة تاريخِ الأمة، ومسارِ تطور معارفها، وفهمِ أحداث الماضي في سياقها بأدواتٍ عقلانية؛ وذلك من أجل الانطلاق نحو المستقبل، فسُنّةُ الكون هي التغير والتطور. وهذا ينطبق على اللغة التي لا تتشرنق في القواميس، بل تنبض بحياة الناس وواقعهم المتغير.
لا نزعم إذًا أننا أصحابُ الفكرة. فقد سبقتنا إليها شعوبٌ أخرى، أدرك مفكروها أن النهضةَ بدأت بتقعيد اللغة الدنيوية المتداولة، وتفصيحها لغةً أدبية وعلميةً وقوميةً، وتعميمِ القراءة والكتابة. لكنها، أي النهضة، لا تكتملُ من دون الوعي بتطوّرِ ألفاظِ اللغةِ ودلالاتها ومعانيها ومبانيها. وذلك لفهم ماضي الأمة، بوصفه عمليةَ تبدلٍ وتطورٍ، خلافًا لما تثبِّتُه الهويات.
ولسنا أصحاب الفكرة عربيًا، فقد بُذلت جهودٌ مخلصةٌ من أجل بناء معجمٍ تاريخيٍ للغة العربية، بدءًا من تأسيسِ مجمعِ اللغة العربية بالقاهرة عام 1932، الذي استفاد من عضويّة المستشرق الألماني أوغست فيشر عام 1936، والذي سعى بدوره إلى تسجيل تطور العربية الفصحى، حتى عام 300 للهجرة معتقدًا أنها اكتملت فيه. وربما عالج جزءًا من ألفاظ حرف الهمزة. ويتواصلُ حاليًا عملَه المهم في ألمانيا برعاية الأكاديمية الألمانية للاستشراق، وبدعم من أكاديميات العلوم في عدة ولايات.
منذ ذلك الحين، جرت مياهٌ كثيرةٌ في نهر المعاجم العربية؛ نذكر منها عملَ الشيخ عبد الله العلايلي في لبنان، ومحاولات البدء بجمع شواهدَ في المشروع التونسي للمعجم التاريخي العربي الذي نجح في جمع شواهدَ من 90 شاعرًا جاهليًّا من عام 200 إلى 609 ميلاديًا، وهو جهدٌ مقدّرٌ بالتأكيد.
ولكن نهر المعجم التاريخي للغة العربية ظل جافًا، وكادت الفكرة تستحيل حلمًا يراود الباحثين واللغويين. وحَرَمُ المعاجمِ التاريخيةِ مرغوبٌ مرهوبٌ يدور الباحثون العرب حوله، ويلبثون عند مداخله، لا يدّقون أبوابه، ولا يقتحمونها. ومن يلومهم؟ فهذه مشاريعٌ قوميةٌ، يفترضُ أن تتبناها دول.
وتجربةُ المعاجم التاريخية للغاتٍ أقصرَ تاريخًا وأيسرَ مسلكا من العربية لا تشجّعُ كثيرًا، إذ استَنزفت أجيالًا من الباحثين، مع أنها كانت مشاريعَ قوميةً تبنتها دولٌ عبر أكاديمياتها العلمية.
في ألمانيا، بدأ الأخوان غريم بالعمل على معجم ألماني تاريخي عام 1838، وأنجزا ستة حروف في ستة عشر عامًا. ثم توقف العمل؛ وما لبِث أن عاد متزامنًا مع مساعي الوحدة الألمانية؛ إذ قرّر بسمارك عام 1867 تمويل المشروع من الدولة. واكتمل في عام 1961 في 32 مجلّدًا تضم 330 ألفَ مدخلٍ معجمي في اللغة الألمانية الفصحى، وذلك بدءًا من عام 1450؛ أي إنّ العمل على 400 عامٍ من اللغة احتاج إلى قرنٍ وعقدين من العمل، وإن كان عملًا متقطعًا. أمّا معجم اللغة الإنكليزية فبدأ العمل عليه عام 1857 مؤرِّخًا لـ 1250 عامًا من تطوّر اللغة. واستغرق بناءُ مدونَته اللغوية وحدها 20 عامًا، وأسهم في جمع نصوصها تطوعًا 800 قارئ وكاتب. وفي عام 1884، بوشر بنشر فصولٍ من المعجم تحت عنوان معجم إنكليزي جديد على مبادئ تاريخيّة، لكنّ صدور المعجم اكتمل بعد سبعين عاما، سنة 1928، ونُشر في عشر مجلدات بعنوان معجم أوكسفورد للغة الإنكليزية، وصدرت طبعته عام 1989 في عشرين مجلدًا. ومنذ عام 1988، أتيح على شبكة الإنترنت، وأصبح يضم أكثر من 300 ألف مدخلٍ معجمي. وبدأ العمل بالمعجم الفرنسي عام 1778، وتطلّب العمل عليه سبعين عامًا حتى عام 1858 حين نُشر الحرف A في أربعة مجلدات، واستمر العمل متقطعًا إلى أن نُشرت طبعتُه الأولى عام 1992، وهو يتناول تاريخَ ألفاظِ اللغةِ الفرنسيةِ من عام 842 ميلاديًا حتى أواخر القرن العشرين. وشُرع في العمل على المعجم الهولندي المتأثر بالألماني منهجًا في عام 1849، وأُعلن اكتمالُه عام 1998، أي بعد قرنٍ ونصف، وأرّخ للألفاظ بدءًا من عام 1500. وضمن مساعي إحياء اللغة العبرية، أُطلق مشروعُ المعجم التاريخي للغة العبرية عام 1955، واستغرق جمعُ المصادرِ وبناءُ المدوّنةِ نحو ستين عامًا، بدءًا من لفافات البحر الميت ومخطوطات جنيزا بالقاهرة. وفي عام 2005، بدأت أكاديميتُهم بتحرير مواد المعجم، وفُتحت للجمهور في عام 2010. ويقوم هذا المعجم على 4300 مصدرٍ فقط.
لسنا أصحاب الفكرة إذًا، ولكنّنا نحن الذين امتلكنا الجرأة على بناء هذا المركب، والإبحار به في بحر تاريخ اللغة العربية، وأثبتنا بالمنهج العلمي والمهارات الإدارية، والعمل الجماعي الممأسس، في المجلس العلمي والهيئة التنفيذية وفرق المعالجة المعجمية، أنها ممكنة التنفيذ.
والفوائد جمة يصعب حصرُها، من فهم التاريخ والتراث بدلالة المفردات في زمن استخدامها من دون إسقاط الحاضر على الماضي، واكتشاف قدرة اللغة العربية على توليد مصطلحاتٍ علميةٍ من جهة، وتبيين مرونتها في استيعاب مفردات أعجمية وتعريبها حين كانت قويةً واثقةً من نفسها من جهة أخرى.
في الاجتماعات الأولى التي عُقدت لبحث الموضوع، بعد أن خاطبني في العام 2011 مجموعة زملاء باحثين، ضاقوا ذرعا بتعثر المشاريع في هذا الصدد، وقبل أن أتوجّه إلى سمو الشيخ تميم بن حمد، الذي كان في حينه وليًّا للعهد، لطرح الفكرة عليه في عام 2012، فكّرنا في المعضلات التالية: قِدمُ اللغة العربية مقارنةً باللغات التي تَقدَّم الحديث عنها، وإشكالياتُ تأريخِ النصوص العربية بالتوثّق من تواريخ وفيات كتابها، وتدوينُ المنقولِ شفويًا بعد أجيال، وأحيانًا بعد قرون، من تاريخ القول، إن صحت نسبته إلى القائل، فثمة شكوكٌ يوجبها المنهجُ العلمي، ومشاكلُ في دقة النصوص ذاتها، وأخطاءٌ حتى في المحقّقة منها، وخصوصيةُ الصرف العربي، وصعوبةُ معالجة اللغة العربية حاسوبيًا، إضافة إلى قضايا منهجية عديدة غير محلولة، متعلقة بترتيب الألفاظ، وما الذي يمكن أن يُذكر أو يُغفل عند شرحها، مثل الوسوم والتأثيل والمصطلحات.
عَلِمنا أنّ المسلكَ وعرٌ، والمهمةَ معقدةٌ دونها مشقاتٌ أدركنا بعضَها وجهلنا غيرَه في تلك المرحلة. ولكن الرؤيةَ والعزيمةَ توفّرا، وتوفرت الرعايةُ الكريمةُ والمتفهمة التي منحتها للمشروع قيادةٌ قطريةٌ صاحبةُ رؤية. وتوفرت الثقة بالقدرات والكفاءات العربية والعمل الجماعي المُمأسس، وتسخير التقنيات الحاسوبية بشكلٍ غير مسبوق، وتطوير ما لم يتوفر منها في خدمة العربية. فاتخذنا القرار أن نمضي، لنثبت أن المهمة ليست مستحيلة، فالنهضة لا تقوم على العقلِ وحدَه، بل أيضًا على الإيمان بإمكانية تحويل الأحلام النبيلةِ إلى أهدافٍ واقعيةٍ، ثم برامج عمل.
بناءً على ما ذُكر، يمكن اعتبارُ معجم الدوحة التاريخي للغة العربيّة سَبْقًا، ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى العالمي أيضًا، على الرغم من خصوصية الصعوبات التي تُميز العربية؛ إذ أُنجز في ثلاث سنواتٍ مئةُ ألفِ مدخلٍ معجمي للغةٍ قديمةٍ عريقة. علمًا أنّ الصعوبات في حالة اللغة العربيّة تفوق أيَّ لغةٍ أخرى أُرّخ لها معجميًا.
لقد قطعنا شوطًا في جمع مدونات المراحل المقبلة، وتنسيقها وترتيبها، وسوف نواصل الطريق من عام 200 للهجرة حتى يومنا هذا، وسيكون الإيقاعُ أسرعَ رغم ضخامة مدونة المراحل التالية التي ستفوق مليار كلمةٍ، كما يقدّر خبراء المدونة حاليًا. وسوف يجري تحيين بوابة المعجم الإلكترونية أولًا بأول بهدوء من دون احتفالات.
لقد قرّرنا في المركز العربي للأبحاث أن نسميَه "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، لأن مشروعنا هو أيضًا هديةٌ ثمينةٌ للغاية من الدوحة إلى الأمة جمعاء. ومنذ اليوم، كل من يريد أن يعرف دلالة لفظ عربي في مرحلةٍ زمنيةٍ محددةٍ، سوف يزور معجم الدوحة التاريخي.
كانت مدنٌ إيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ومدنٌ حرة في وسط وشمال أوروبا، مهدَ النهضة في تلك الأصقاع. وتثبت قطر، أن بلدًا غنيًا برؤية قيادته وحرية إرادتها ووعي شعبه وموارده بإمكانه أن يكون مرتَكزًا من مرتكزات نهضةٍ عربيةٍ قادمة.
هذا المعجم كلمةٌ طيبةٌ كشجرةٍ طيبةٍ أصولها في الدوحة، وفروعها في كل مكان ينطقون فيه بالعربية أو يبحثون فيها. "فأمّا الزبدُ فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض".
(كلمة مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، في حفل إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية)
أقف اليوم أمامَكم لأعلن إطلاق المرحلة الأولى الأهم من المعجم التاريخي للغة العربية، والتي تغطي سبعَمئةَ عامٍ من تاريخ لغتنا، من النقوش المكتشفة الأولى حتى نهاية القرن الثاني للهجرة.
خلال عامين، أُرسيتْ أسسُ المعجمِ وصُمّم منهجُه، وتمّ رسمُ المسارِ وشقُّ الطريقِ، وثُبِّتت السكةُ، ثم قطع عليها قطارُ المعجمِ مسافةَ سبعَمئةَ عام في ثلاث سنوات تلت. وهو زمنٌ قياسيٌ مقارنةً بأي معجمٍ تاريخي من معاجم اللغات الأخرى.
ترتبط المعاجمُ التاريخيّةُ في جميع اللغات بالنهضة والتنوير، لأنّ اللغة صنوٌ لنهضةِ أيِّ أمّة، ولأنّها تلتفتُ إلى التاريخ من زاوية قبول فكرة التغيّر والتطوّر. هكذا نفهم اهتمام النهضويين بأصول اللغة، وانتشار الأبحاث في العائلات اللسانية في أوروبا، القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويكمن الفرق بين النزعة التاريخية النهضوية التنويرية والنزعة التاريخية الرومانسية في أنّ الأولى لا تعود إلى الماضي نكوصًا لتكريس صورةٍ عن عصرٍ ذهبي لا يتلوه إلا الانحطاط، ولا من أجل بلورة ما تعتبره شخصيةَ الأمةِ وروحَها، بل لكتابة تاريخِ الأمة، ومسارِ تطور معارفها، وفهمِ أحداث الماضي في سياقها بأدواتٍ عقلانية؛ وذلك من أجل الانطلاق نحو المستقبل، فسُنّةُ الكون هي التغير والتطور. وهذا ينطبق على اللغة التي لا تتشرنق في القواميس، بل تنبض بحياة الناس وواقعهم المتغير.
لا نزعم إذًا أننا أصحابُ الفكرة. فقد سبقتنا إليها شعوبٌ أخرى، أدرك مفكروها أن النهضةَ بدأت بتقعيد اللغة الدنيوية المتداولة، وتفصيحها لغةً أدبية وعلميةً وقوميةً، وتعميمِ القراءة والكتابة. لكنها، أي النهضة، لا تكتملُ من دون الوعي بتطوّرِ ألفاظِ اللغةِ ودلالاتها ومعانيها ومبانيها. وذلك لفهم ماضي الأمة، بوصفه عمليةَ تبدلٍ وتطورٍ، خلافًا لما تثبِّتُه الهويات.
ولسنا أصحاب الفكرة عربيًا، فقد بُذلت جهودٌ مخلصةٌ من أجل بناء معجمٍ تاريخيٍ للغة العربية، بدءًا من تأسيسِ مجمعِ اللغة العربية بالقاهرة عام 1932، الذي استفاد من عضويّة المستشرق الألماني أوغست فيشر عام 1936، والذي سعى بدوره إلى تسجيل تطور العربية الفصحى، حتى عام 300 للهجرة معتقدًا أنها اكتملت فيه. وربما عالج جزءًا من ألفاظ حرف الهمزة. ويتواصلُ حاليًا عملَه المهم في ألمانيا برعاية الأكاديمية الألمانية للاستشراق، وبدعم من أكاديميات العلوم في عدة ولايات.
منذ ذلك الحين، جرت مياهٌ كثيرةٌ في نهر المعاجم العربية؛ نذكر منها عملَ الشيخ عبد الله العلايلي في لبنان، ومحاولات البدء بجمع شواهدَ في المشروع التونسي للمعجم التاريخي العربي الذي نجح في جمع شواهدَ من 90 شاعرًا جاهليًّا من عام 200 إلى 609 ميلاديًا، وهو جهدٌ مقدّرٌ بالتأكيد.
ولكن نهر المعجم التاريخي للغة العربية ظل جافًا، وكادت الفكرة تستحيل حلمًا يراود الباحثين واللغويين. وحَرَمُ المعاجمِ التاريخيةِ مرغوبٌ مرهوبٌ يدور الباحثون العرب حوله، ويلبثون عند مداخله، لا يدّقون أبوابه، ولا يقتحمونها. ومن يلومهم؟ فهذه مشاريعٌ قوميةٌ، يفترضُ أن تتبناها دول.
وتجربةُ المعاجم التاريخية للغاتٍ أقصرَ تاريخًا وأيسرَ مسلكا من العربية لا تشجّعُ كثيرًا، إذ استَنزفت أجيالًا من الباحثين، مع أنها كانت مشاريعَ قوميةً تبنتها دولٌ عبر أكاديمياتها العلمية.
لسنا أصحاب الفكرة إذًا، ولكنّنا نحن الذين امتلكنا الجرأة على بناء هذا المركب، والإبحار به في بحر تاريخ اللغة العربية، وأثبتنا بالمنهج العلمي والمهارات الإدارية، والعمل الجماعي الممأسس، في المجلس العلمي والهيئة التنفيذية وفرق المعالجة المعجمية، أنها ممكنة التنفيذ.
والفوائد جمة يصعب حصرُها، من فهم التاريخ والتراث بدلالة المفردات في زمن استخدامها من دون إسقاط الحاضر على الماضي، واكتشاف قدرة اللغة العربية على توليد مصطلحاتٍ علميةٍ من جهة، وتبيين مرونتها في استيعاب مفردات أعجمية وتعريبها حين كانت قويةً واثقةً من نفسها من جهة أخرى.
في الاجتماعات الأولى التي عُقدت لبحث الموضوع، بعد أن خاطبني في العام 2011 مجموعة زملاء باحثين، ضاقوا ذرعا بتعثر المشاريع في هذا الصدد، وقبل أن أتوجّه إلى سمو الشيخ تميم بن حمد، الذي كان في حينه وليًّا للعهد، لطرح الفكرة عليه في عام 2012، فكّرنا في المعضلات التالية: قِدمُ اللغة العربية مقارنةً باللغات التي تَقدَّم الحديث عنها، وإشكالياتُ تأريخِ النصوص العربية بالتوثّق من تواريخ وفيات كتابها، وتدوينُ المنقولِ شفويًا بعد أجيال، وأحيانًا بعد قرون، من تاريخ القول، إن صحت نسبته إلى القائل، فثمة شكوكٌ يوجبها المنهجُ العلمي، ومشاكلُ في دقة النصوص ذاتها، وأخطاءٌ حتى في المحقّقة منها، وخصوصيةُ الصرف العربي، وصعوبةُ معالجة اللغة العربية حاسوبيًا، إضافة إلى قضايا منهجية عديدة غير محلولة، متعلقة بترتيب الألفاظ، وما الذي يمكن أن يُذكر أو يُغفل عند شرحها، مثل الوسوم والتأثيل والمصطلحات.
عَلِمنا أنّ المسلكَ وعرٌ، والمهمةَ معقدةٌ دونها مشقاتٌ أدركنا بعضَها وجهلنا غيرَه في تلك المرحلة. ولكن الرؤيةَ والعزيمةَ توفّرا، وتوفرت الرعايةُ الكريمةُ والمتفهمة التي منحتها للمشروع قيادةٌ قطريةٌ صاحبةُ رؤية. وتوفرت الثقة بالقدرات والكفاءات العربية والعمل الجماعي المُمأسس، وتسخير التقنيات الحاسوبية بشكلٍ غير مسبوق، وتطوير ما لم يتوفر منها في خدمة العربية. فاتخذنا القرار أن نمضي، لنثبت أن المهمة ليست مستحيلة، فالنهضة لا تقوم على العقلِ وحدَه، بل أيضًا على الإيمان بإمكانية تحويل الأحلام النبيلةِ إلى أهدافٍ واقعيةٍ، ثم برامج عمل.
بناءً على ما ذُكر، يمكن اعتبارُ معجم الدوحة التاريخي للغة العربيّة سَبْقًا، ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى العالمي أيضًا، على الرغم من خصوصية الصعوبات التي تُميز العربية؛ إذ أُنجز في ثلاث سنواتٍ مئةُ ألفِ مدخلٍ معجمي للغةٍ قديمةٍ عريقة. علمًا أنّ الصعوبات في حالة اللغة العربيّة تفوق أيَّ لغةٍ أخرى أُرّخ لها معجميًا.
لقد قطعنا شوطًا في جمع مدونات المراحل المقبلة، وتنسيقها وترتيبها، وسوف نواصل الطريق من عام 200 للهجرة حتى يومنا هذا، وسيكون الإيقاعُ أسرعَ رغم ضخامة مدونة المراحل التالية التي ستفوق مليار كلمةٍ، كما يقدّر خبراء المدونة حاليًا. وسوف يجري تحيين بوابة المعجم الإلكترونية أولًا بأول بهدوء من دون احتفالات.
لقد قرّرنا في المركز العربي للأبحاث أن نسميَه "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، لأن مشروعنا هو أيضًا هديةٌ ثمينةٌ للغاية من الدوحة إلى الأمة جمعاء. ومنذ اليوم، كل من يريد أن يعرف دلالة لفظ عربي في مرحلةٍ زمنيةٍ محددةٍ، سوف يزور معجم الدوحة التاريخي.
كانت مدنٌ إيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ومدنٌ حرة في وسط وشمال أوروبا، مهدَ النهضة في تلك الأصقاع. وتثبت قطر، أن بلدًا غنيًا برؤية قيادته وحرية إرادتها ووعي شعبه وموارده بإمكانه أن يكون مرتَكزًا من مرتكزات نهضةٍ عربيةٍ قادمة.
هذا المعجم كلمةٌ طيبةٌ كشجرةٍ طيبةٍ أصولها في الدوحة، وفروعها في كل مكان ينطقون فيه بالعربية أو يبحثون فيها. "فأمّا الزبدُ فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض".
(كلمة مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، في حفل إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية)