في مآلات الأزمة السودانية

29 ديسمبر 2018
+ الخط -
طرحت الأزمة التي اندلعت أخيراً في عدة ولايات في السودان، وصولاً إلى الخرطوم، احتجاجاً على ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، من قبيل زيادة أسعار الخبر ثلاثة أضعاف، وزيادة أسعار المحروقات وندرتها، فضلاً عن غياب السيولة المحلية والأجنبية، والتهاوي الكبير لسعر العملة أمام الدولار. طرحت تساؤلات عديدة تحتاج مزيداً من النقاش، أبرزها: هل ما يحدث في السودان يدخل في إطار الاحتجاجات أم الانتفاضة أم الثورة ضد نظام عمر البشير، القابع في الحكم منذ قرابة ثلاثة عقود؟ هل هذه التحركات قادرة على إسقاط النظام أو إضعافه؟ ما هي السيناريوهات المتوقعة؟ 
اتصفت الأحداث في السودان بالطبيعة العفوية التي بدأت من مظاهرات بعض الطلبة، لعدم وجود رغيف الخبز في وجبة الإفطار، ودعوة حركاتٍ محدودةٍ غير مسيّسة، مثل حركة قرفنا، إلى التظاهر احتجاجاً على عدم توفر الخبز والوقود، فضلاً عن ارتفاع الأسعار، مستخدمة وسائل التواصل الاجتماعي، ومستلهمة ثورات الربيع العربي. تزامنت هذه الحركة مع حركة أخرى، غير مسيسة أيضاً، أطلق عليها "شباب من أجل التغيير" تحمل المطالب نفسها، أي أن الهدف الأساسي كان اقتصادياً، ليس بدافع الاحتجاج فقط، والذي قد لا يؤدي إلى نتيجة فعلية، وإنما الانتفاضة من أجل الاستجابة لمطالب عدم رفع أسعار السلع الأساسية، فضلاً عن توفيرها. وبالتالي، اتسمت هذه التظاهرات بأنها غير مسيسة ابتداء، وأنها بدأت في الأطراف (القضارف في الشرق، ثم امتدت إلى الغرب، فأم درمان أكبر المدن السودانية، وصولاً إلى الخرطوم). ومعنى هذا أنه يصعب إطلاق وصف الثورة عليها، لأسبابٍ يتعلّق بعضها بحجم المشاركة ونطاق الانتشار، ويتعلق بعضها الآخر بمطالبها، فلم تطالب ابتداء بإسقاط النظام، 
فضلاً عن عدم وجود رأس مدبر لها، وهو أحد الشروط المهمة لنجاح الثورات. وربما هذه الأسباب جعلت التحرك الاحتجاجي بطيئاً، ما مكّن قوات الأمن والجيش من إعادة التموضع من الأطراف، حيث مناطق الاشتباك المحتمل، سواء في دارفور الغرب أو ولايات الشرق، صوب العاصمة ومحيطها، وهو ما جعل هذه القوات تمنع المتظاهرين الذين رفعوا شعارات السلمية من الاقتراب من ميدان أبو جنزير (أشبه بميدان التحرير في القاهرة)، لتقديم عريضة احتجاجية للبشير.
ويلاحظ هنا أن القوى السياسية التقليدية لم تطالب مباشرة بإسقاط النظام، وإنما أيّد بعضها مطالب الجماهير "الاقتصادية"، باعتبارها نقطة اتفاق، حتى من النظام الذي قال إنها تحتاج مزيد وقت، لكنهم لم يتحدثوا عن المطالب السياسية. وعندما ارتفعت وتيرة الاحتجاجات بعض الشيء، طالب بعض هذه القوى بتشكيل حكومة انتقالية إلى حين إجراء الانتخابات 2020 (لم تتحدث صراحة عن إقالة البشير). حتى بيان الإخوان المسلمين الأول، الممهور بتوقيع المراقب الراحل علي جاويش، في 19 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أعلن تأييده مطالب المحتجين، واكتفى بانتقاد الحكومة التي لم تف بمتطلبات الحوار الوطني، لكنه لم يتحدث عن إسقاط البشير، ثم جاء بيان الأمانة السياسية، في 21 ديسمبر/ كانون الأول، ليتحدث عن حكومة انتقالية من دون الحديث عن البشير أيضاً. ويبدو أن الجميع يخشى من تكرار فشل هذه الاحتجاجات في إسقاط النظام، وبالتالي إمكانية التنكيل بها، على غرار ما يحدث في سورية أو في ليبيا أو اليمن أو حتى مصر، عندما يتمكّن النظام من خصومه، وبالتالي ستكون هناك شراسة في التعامل مع هؤلاء الذين ربما لا يقوون على المواجهة، أو التحمّل في مواجهة نظام عسكري، استطاع خلال ثلاثة عقود تفتيت خصومه بكل الطرق الممكنة، مستخدماً سياسية الترهيب والترغيب، فضلاً عن غرس التابعين له في كل مفاصل الدولة. وبالتالي باتت مصالح الدولة العميقة مرتبطةً بوجوده بشدة.
وبشأن إمكانية إسقاط النظام، تصبّ المؤشرات، سواء الخاصة بالموازين الداخلية أو الحسابات الإقليمية والدولية، في صالح النظام حتى الآن، ولا تشي، من قريب أو بعيد، بإمكانية سقوطه، فمن ناحية النظام، لا يزال، على الرغم من تردّي الأوضاع الاقتصادية، ناهيك عن انفصال ثلث البلاد، فضلاً عن أزمة دارفور، مسيطراً ومتماسكاً من خلال أذرعه وأتباعه المنتشرين في كل مفاصل الدولة، بالإضافة إلى سيطرته القوية على القوات المسلحة التي تعتبر صمام الأمان في أية مواجهات محتملة. وفي المقابل، فإن الطرف المعارض إما قيادات تاريخية انتهى دورها أو أصابها الانشقاق والتشرذم، سواء من الداخل أو من خلال تدبير النظام، مثل حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي الذي تشرذم إلى سبعة أحزاب، فضلاً عن أن نجله مستشار للرئيس البشير. وحزب الاتحادي الديمقراطي، بقيادة أحمد الميرغني، انقسم إلى أربعة أحزاب، والبعثيون إلى ثلاثة أحزاب، وغيرهم. وهناك فجوة كبيرة بين هذه القوى السياسية التقليدية التاريخية والشارع الذي لا يرى فيها بديلاً جيداً للنظام. وأصاب الانقسام الحركة الإسلامية، والتي باتت تنقسم إلى ثلاث حركات رئيسية (الرسمية التابعة للنظام، حزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه حسن الترابي، ويعد امتداداً للجبهة القومية الإسلامية، وبات شريكاً في الحكومة الآن، وحركة الإخوان أو حزب الإخوان لاحقاً، ربما يكون دورها محدوداً على النطاق السياسي وربما الاجتماعي أيضاً).

وبالنسبة للبيئة الإقليمية والدولية، من الواضح أن نظام البشير، بحكم دهائه السياسي، استطاع أن يوجد شبكةً من التوازنات والعلاقات الخارجية، تجعل من الصعب التفريط به، أو إسقاطه بسهولة، أو بمعنى آخر استطاع دائماً أن يؤمن لنفسه تحالفاً يقف بجانبه حال عدائه مع طرف أو تحالف آخر، فخلافه التقليدي مع الولايات المتحدة، بسبب تهم دعم الإرهاب، جعله يرتمي في أحضان روسيا التي عرض عليها أخيراً، ومن تلقاء نفسه، إقامة قاعدة عسكرية في البحر الأحمر. كما أن انسحاب شركات النفط من السودان، قبل انفصال الجنوب، جعله يلجأ إلى المنافسين الصينيين، بل واليابانيين والماليزيين. وبالتالي، وقفت موسكو وبكين تحديداً ضد محاولة الولايات المتحدة تدويل أزمة دارفور 2003. ثم وجدناه يرتبط بعلاقات وثيقة مع طهران لمواجهة واشنطن، ثم التفريط في هذه العلاقة لصالح التقارب مع السعودية، ثم أخيراً زار بشار الأسد حليف إيران وهكذا. برزت هذه الشبكة المعقدة من العلاقات الخارجية في خفوت الأصوات المطالبة بإسقاط البشير الذي تردّد أخيراً، وعلى لسان رئيس حكومة العدو الإسرائيلي، نتنياهو، أنه ربما يطبع مع دولة عربية بعد تشاد، ما دفع مراقبين إلى القول إنها السودان. ومن ثم لم نجد انتقاداً أميركياً أو إسرائيلياً صارخاً للنظام في الأزمة الراهنة، على عكس الحال في أزمة دارفور مثلاً.
وعن السيناريوهات المتوقعة بالنسبة للأزمة، فإنها ثلاثة، أولها بقاء النظام مع إدخال بعض الإصلاحات الاقتصادية بالإبقاء على الدعم، وخفض الأسعار، ولو فترة، مع توفير الخدمات الأساسية، والمطالبة بالصبر. وربما هذا ما شرعت فيه الحكومة أخيراً، فقد أعلن مدير المخابرات، صلاح قوش، عدم رفع الدعم عن أسعار الدقيق والوقود مستقبلاً، وأن هناك إجراءات سوف تتخذها الحكومة ستؤدي إلى انفراجة بحلول شهر يناير/ كانون الثاني المقبل، إذ شرعت الحكومة في طرح عطاءات لاستيراد القمح والدقيق، ووقّعت اتفاقاً مع جنوب السودان للحصول على النفط. السيناريو الثاني هو الضغط على النظام لتقديم تنازلات في المجال السياسي، بتشكيل حكومة وطنية انتقالية تدير البلاد إلى حين الانتخابات المقبلة. وستكون نقطة تعديل الدستور للتمديد للبشير إحدى القضايا الحرجة التي يتوقف طرحها على قوة كلا الطرفين، النظام والمعارضة، ومدى قدرة أحدهما على فرض أجندته على الطرف الآخر. السيناريو الثالث، حدوث انقلاب على النظام من داخل المؤسسة العسكرية.
وفي ضوء استقراء الأوضاع الراهنة، وموازين القوى الداخلية والخارجية، يمكن القول إن السيناريو الأول هو المرجح، وربما الثاني بدرجة أقل. أو يمكن المزاوجة بينهما بنسبة تميل إلى الأول أكثر من الثاني. بمعنى إدخال إصلاحات اقتصادية وسياسية محدودة، تتضمّن مشاركة المعارضة بصورة أكبر في الحكم، في مقابل تمرير مشروع تعديل الدستور لصالح ترشّح الرئيس لفترات مقبلة. وربما يكون السيناريو الثالث الأقل احتمالاً، لأسباب تتعلّق بطبيعة المؤسسة العسكرية، ولعدم وجود ميل خارجي لصالح هذا الخيار.
B8DDCC55-8075-41F9-A617-4F3EA9A3A8C9
بدر شافعي

كاتب وباحث مصري، يحمل الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، له كتابان عن تسوية الصراعات في إفريقيا، وعن دور شركات الأمن في الصراعات.