04 يناير 2022
عن تقرير الحريات والمساواة في تونس
صدر في تونس تقرير لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة التي شُكِّلت بأمر رئاسيّ في أغسطس/ آب 2017، فعقدت 33 اجتماعا، ونسّقت عملها مع هياكل الدولة، وحاورت الهيئات الوطنيّة المستقلّة، وأنصتت للمجتمعين، السياسيّ والمدنيّ، وانفتحت على المنظّمات الدوليّة والهيئات الأمميّة المعنيّة بحقوق الإنسان. ثمّ قدّمت تقريرا مفصّلا معلّلا، اجتهدت ليكون أرقى ما يمكن أن يُعمل به في باب الحرّيّات الفرديّة والمساواة في تونس اليوم. وجاء في جزأين: الأوّل في الحقوق والحرّيّات الفرديّة، وينتهي بـ"مقترح مشروع مجلّة الحقوق والحرّيّات الفرديّة"، والثاني في المساواة، وينتهي بـ"مقترح مشروع قانون أساسيّ يتعلّق بالقضاء على التمييز ضدّ المرأة وبين الأطفال".
واشتمل التقرير على فصول مهمّة في حماية الحرّيّات الفرديّة، منها حرّيّة الفكر والمعتقد والضمير، وحرّيّة الرأي والتعبير، وحرّيّة الفنون والعلوم، والحرّيّات الأكاديميّة، إلخ... وانقسم الناس بشأنه فريقين، أحدهما يقبل التقرير كما هو، ولا يناقشه، ويعتبره خطوة عظيمة في طريق إقرار الحرّيّات الفرديّة، وتثبيت المساواة بين الرجل والمرأة في كلّ شيء، ويغلو هؤلاء، فيقولون إنّه مسمار جديد في نعش الفكر الدينيّ المتخلّف المستعبد للمرأة. والثاني يرفض التقريرَ جملةً أو فصولًا منه، ويعدّه خروجا عن نصوص الدين القطعيّة، وهدما للثابت من أحكامه، وتشريعا للرذيلة والفاحشة، ويغلو هؤلاء فيُحيون لغة الخيانة، ويرفعون سيف التكفير. ويمكن، بعيدا عن جلبة المهوّشين، إبداءُ ملاحظات أوّليّة تتعلّق بما يُنتظر أن يعمّقه النقاش.
الأولى أنّ التقرير بُني على مرجعيّة حقوق الإنسان، كما صاغتها المعاهدات والنصوص الدوليّة، وأشار إلى أنّ التونسيّين اهتمّوا بالحريّات العامّة، لكنّهم أهملوا الحريّات الفرديّة، ونبّه إلى "أنّ المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان منظومة متكاملة، مترابطة وغير قابلة للتجزئة، لأنّها منظومة تعكس كلّ أبعاد الإنسان. فلا تفضيل للحقوق المدنيّة على الحقوق الاقتصاديّة ولا تفضيل للحريّات العامّة على الحرّيّات الفرديّة" (ص 99). وسيستعمل معارضو التقرير المنطق نفسه، ليقولوا إنّ الشريعة الإسلاميّة منظومة متكاملة، غير قابلة للتجزئة، فلا يمكن أن نُعْمِل منها أحكاما ونهمل أخرى، ولا يصحّ أن نختار منها ما وافق عندنا مصلحةً خاصّة أو
حاجة أو رغبة ونسقط غير ذلك. وسيقولون أيضا إنّ منظومة حقوق الإنسان تعكس كلّ أبعاد الإنسان، كما صاغتها القوى الدوليّة المهيمنة، وسيذكرون من التاريخ المعاصر حوادث كثيرة، عبثت فيها هذه القوى بالإنسان وحقوقه، وسيضربون أمثلةً على القمع المحميّ بالقانون، ومن أشهرها كبْت كلّ صوتٍ يناقش مسألة الهولوكست، أو ينقدها نقدا علميّا.
والملاحظة الثانية أنّه يستفاد من مقدّمة التقرير العامّة قيامُه على مرجعيّة دينيّة إسلاميّة، تستحضر مقاصدَ القرآن وروحَ الدين، وضرورةَ التطلّع إلى ما جاء الإسلامُ من أجله، لا الوقوف عند ما جاء به. ومن الآيات التي استدلّ بها التقرير على أصالة الحرّيّة في الإسلام آيةُ "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"، "والخليفة المقصود هو الإنسان الذي بعد وجوده تحمَّل مسؤوليّة التصرّف في الكون الذي سبقه في الخلق، وهو حرّ في هذا التصرّف، بما في ذلك إفساده أو إصلاحه" (ص 8). وسيقال في الاعتراض إنّ لحرّيّة الإنسان في القرآن حدودا، وخلافته لا تعني إطلاق تصرّفه في الكون، فضابطُ فعْله أن يتصرّف فيه بمقتضى الأمانة لا مقتضى الإباحة، وهو مدعوّ إلى الإصلاح ومنهيّ عن الفساد. وإذا كان الاستشهاد بهذه الآية تأسيسا للحرّيّات الفرديّة التي سيذكرها التقرير، فمن العسير حقّا الاستدلال بها، ولا يكاد يُغني في الاستدلال إعمالُ نظريّة المقاصد والفحصُ عن روح الدين وقراءةُ القرآن قراءةً سهميّة تطلبُ ما جاء من أجله، ولا تسْكن عند ما جاء به. ولا يدلّ تقليب الآيات المذكورة في مقدّمة التقرير على إمكان استعمالها في معالجة أكثرِ المسائل إثارةً للخلاف بين التونسيّين، ومنها حرّيةُ المعتقد والضمير، وحرّيّةُ الإنسان في جسده، واحترامُ مختلف الميول الجنسيّة وتقنينُها، وحقوقُ "الأمّهات العازبات"، ومسألةُ الميراث.
والملاحظة الثالثة أنّ فلسفة التقرير هي أن يكون معبّرا عن تطلّعات التونسيّين إلى الحرّيّة والمساواة (ص 100)، وترمي فصولُه إلى "القضاء على جميع أشكال التمييز على مستوى القانون، باعتباره المستوى الأخطر، حتّى لا تبقى المساواة مشرّعة تشريعا، مبرّرة بإرادة الدولة، مباركة من هياكلها. وليس هذا إلّا منطلقا في درب المساواة الطويل الذي يبدأ بالقانون، ولا ينتهي معه، وإنّما يجب أن يستمرّ بعملٍ طويل النفس في عمق الصعيد الاجتماعيّ" (131). وتطرح هذه الفلسفةُ مشكلتين. أولاهما التفكيرُ في ما يجب أن يكون، لا تقنينُ ما هو كائن، فالتطلّع يتعلّق بما هو مرغوبٌ متمنّى، لا بما هو قائم حادث. والمرغوب الذي يجب أن يكون يختلفُ فيه الناس، فمنهم من يعدّه محاولةً لتشريع ما لا يحتاج إليه المجتمع، ولا يعبّر عن ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ ولا حقيقةٍ واقعيّة، ومنهم من يعدّه ترفا فكريّا يترجم حاجات طبقةٍ معيّنة ولا صلةَ له بمطالب أغلبيّة الفقراء والعاطلين والمهمّشين. والمشكلة الثانية استعمالُ القانون للضبط الاجتماعيّ القسريّ، فبداية درب المساواة بالقانون قبل التغيير في العمق الاجتماعيّ معناها إخضاعُ الناس جميعا للقانون، وإكراهُ من رفضه على العمل به إلى أن يألفه، فالمجتمع التونسيّ اليوم ما زالت فيه مرجعيّات غير حداثيّة، تضبط معاملات الناس، وتؤثّر في السلوك، وإن ضَعُفت. وكان يُفترض أن يساهم التعليمُ والنشاطُ الثقافيّ والفكر الحداثيُّ والإعلامُ وعملُ الأحزاب والمجتمع المدنيّ والتنميةُ الاقتصاديّةُ في تغيير العقليّة والثقافة وتفكيك المرجعيّات التقليديّة، وتهيئةِ الناس لتجديد التشريع، لكنّ هذا العمل لم يُنجز أو لم يتمّ، فكيف يوضع اليوم قانونٌ لا يعبّر عن مطالبَ واقعيّةٍ، ولا يعالج ظواهر اجتماعيّة؟ ثمّ يُكرَه الناس على العمل به، أو يُستدرَجون إليه حتّى يألفوه!
ولم تكن اللجنة غافلةً عن هذه الحقيقة الاجتماعيّة، فرأتْ أن يُعمل ببعض الفصول بالتدريج في مسائل منها الميراث (ص 182) والمهر (ص 149) والعِدَّةُ (ص 155) ومنْح الطفلِ لقبَ أمّه (ص 172). واقترحت في الميراث مثلا ضمانَ المساواة قانونا، "لكن يقرّ القانون للمورّث (الأب بالنسبة إلى أبنائه، الجدّ بالنسبة إلى أحفاده، الأخ أو الأخت بالنسبة إلى إخوته) بحقٍّ يخوّل له أن يوصي في قائم حياته بقسمة تركته، حسب نظام للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنْثَييْن". إلّا أن هذا الحلّ قد يؤدّي إلى تثبيت الانقسام، فيعمل فريق من المواطنين بالمقترح الأوّل (المساواة)، ولا يعمل الفريق الثاني إلّا بالمقترح الثاني. ولا يُستبعد أن تبرز في المستقبل مطالباتٌ بإجراء هذا التمييز في مسائل أخرى.
والملاحظة الرابعة أنّ في التقرير فصولا لا تستوعب المعاني التي اقتُرحت من أجلها، فحماية الحياة الخاصّة، مثلا، فيها فصول ضبطت عقوبة من يعتدي على حياة غيره الخاصّة. والأفعالُ المجرَّمة هي "التنصّت على الأقوال الصادرة عن شخص على سبيل خاصّ أو سرّيّ أو
تسجيلها أو الاحتفاظ بها أو نقلها أو إطلاع الغير عليها أو نشرها"، و"أخذ أو التقاط صورة شخص في مكان خاصّ أو تسجيلها أو الاحتفاظ بها أو نقلها أو إطلاع الغير عليها أو نشرها". لكنّ هذا الفصل لا يضبط حالات التسجيل بكاميرات المراقبة في الشوارع والمتاجر، فهذه الأماكن ليست خاصّة، واستعمال الكاميرا فيها ليس سريّا، بل ينبّه أصحابُها على وجودها بكتابة ما يفيد أنّ المكان مراقب بها. لكنّ الناس لا يعرفون هل تستعمل وزارةُ الداخليّة كاميرا المراقبة في الشارع للوقاية من الجريمة والإرهاب فقط، ولا يعرفون هل يستعمل أصحاب المتاجر هذه الأجهزة لمراقبة سلوك الشراء، ورغبات الاستهلاك والتجسّس على الزبائن، وهل يستطيع طرف ثالث (كالمصالح الأمنيّة مثلا) الاطّلاع على التسجيلات. ولا يعالج الفصلُ ظاهرةً مزعجةً ضاق بها التونسيّون ذَرْعا، وهي التقاطُ صور حوادث المرور في الشوارع (وهي مكان عامّ) والمسارعةُ إلى نشرها في وسائل التواصل الاجتماعيّ، من غير استئذانٍ، ولا مراعاةٍ لشعور أقارب القتلى والمصابين.
وضبط فصل آخر عقوبة من ينشر "بإحدى الطرق العلنيّة أخبارا أو صورا أو تعليقات تتّصل بأسرار الحياة الخاصّة أو العائليّة للأفراد ولو كانت صحيحة إذا كان الغرض من نشرها الإساءة إليهم"، فكيف يمكن ضبط معنى "الإساءة"؟ وهل تسقط العقوبة إذا وقعت الإساءة من غير قصد إليها؟ وهل من حقّ المتضّرر أن يطالب بمحاكمة من كشف حياته الخاصّة وهو لا يُضمر الإساءة إليه؟ ويستفاد من هذا أنّ الفصول المقترحة في حماية الحياة الخاصّة لم تميّز بين أمرين مختلفين، جمعُ المعلومات الخاصّة واستعمالُها، ولم تستوعب جميع الحالات التي يمكن أن تُنتهك فيها.
ويستفادُ من قراءة جملة التقرير أنّه عمل مهمّ في طريق إقرار الحريّات الخاصّة وتقنينها، وأنّ قيمته في فصولِه التي يتّفق عليها التونسيّون، ومقترحاتِه التي يختلفون فيها، فتفتحُ باب الحوار لتطوير التشريع، وتثبيت أسس الدولة المدنيّة.
واشتمل التقرير على فصول مهمّة في حماية الحرّيّات الفرديّة، منها حرّيّة الفكر والمعتقد والضمير، وحرّيّة الرأي والتعبير، وحرّيّة الفنون والعلوم، والحرّيّات الأكاديميّة، إلخ... وانقسم الناس بشأنه فريقين، أحدهما يقبل التقرير كما هو، ولا يناقشه، ويعتبره خطوة عظيمة في طريق إقرار الحرّيّات الفرديّة، وتثبيت المساواة بين الرجل والمرأة في كلّ شيء، ويغلو هؤلاء، فيقولون إنّه مسمار جديد في نعش الفكر الدينيّ المتخلّف المستعبد للمرأة. والثاني يرفض التقريرَ جملةً أو فصولًا منه، ويعدّه خروجا عن نصوص الدين القطعيّة، وهدما للثابت من أحكامه، وتشريعا للرذيلة والفاحشة، ويغلو هؤلاء فيُحيون لغة الخيانة، ويرفعون سيف التكفير. ويمكن، بعيدا عن جلبة المهوّشين، إبداءُ ملاحظات أوّليّة تتعلّق بما يُنتظر أن يعمّقه النقاش.
الأولى أنّ التقرير بُني على مرجعيّة حقوق الإنسان، كما صاغتها المعاهدات والنصوص الدوليّة، وأشار إلى أنّ التونسيّين اهتمّوا بالحريّات العامّة، لكنّهم أهملوا الحريّات الفرديّة، ونبّه إلى "أنّ المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان منظومة متكاملة، مترابطة وغير قابلة للتجزئة، لأنّها منظومة تعكس كلّ أبعاد الإنسان. فلا تفضيل للحقوق المدنيّة على الحقوق الاقتصاديّة ولا تفضيل للحريّات العامّة على الحرّيّات الفرديّة" (ص 99). وسيستعمل معارضو التقرير المنطق نفسه، ليقولوا إنّ الشريعة الإسلاميّة منظومة متكاملة، غير قابلة للتجزئة، فلا يمكن أن نُعْمِل منها أحكاما ونهمل أخرى، ولا يصحّ أن نختار منها ما وافق عندنا مصلحةً خاصّة أو
والملاحظة الثانية أنّه يستفاد من مقدّمة التقرير العامّة قيامُه على مرجعيّة دينيّة إسلاميّة، تستحضر مقاصدَ القرآن وروحَ الدين، وضرورةَ التطلّع إلى ما جاء الإسلامُ من أجله، لا الوقوف عند ما جاء به. ومن الآيات التي استدلّ بها التقرير على أصالة الحرّيّة في الإسلام آيةُ "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"، "والخليفة المقصود هو الإنسان الذي بعد وجوده تحمَّل مسؤوليّة التصرّف في الكون الذي سبقه في الخلق، وهو حرّ في هذا التصرّف، بما في ذلك إفساده أو إصلاحه" (ص 8). وسيقال في الاعتراض إنّ لحرّيّة الإنسان في القرآن حدودا، وخلافته لا تعني إطلاق تصرّفه في الكون، فضابطُ فعْله أن يتصرّف فيه بمقتضى الأمانة لا مقتضى الإباحة، وهو مدعوّ إلى الإصلاح ومنهيّ عن الفساد. وإذا كان الاستشهاد بهذه الآية تأسيسا للحرّيّات الفرديّة التي سيذكرها التقرير، فمن العسير حقّا الاستدلال بها، ولا يكاد يُغني في الاستدلال إعمالُ نظريّة المقاصد والفحصُ عن روح الدين وقراءةُ القرآن قراءةً سهميّة تطلبُ ما جاء من أجله، ولا تسْكن عند ما جاء به. ولا يدلّ تقليب الآيات المذكورة في مقدّمة التقرير على إمكان استعمالها في معالجة أكثرِ المسائل إثارةً للخلاف بين التونسيّين، ومنها حرّيةُ المعتقد والضمير، وحرّيّةُ الإنسان في جسده، واحترامُ مختلف الميول الجنسيّة وتقنينُها، وحقوقُ "الأمّهات العازبات"، ومسألةُ الميراث.
والملاحظة الثالثة أنّ فلسفة التقرير هي أن يكون معبّرا عن تطلّعات التونسيّين إلى الحرّيّة والمساواة (ص 100)، وترمي فصولُه إلى "القضاء على جميع أشكال التمييز على مستوى القانون، باعتباره المستوى الأخطر، حتّى لا تبقى المساواة مشرّعة تشريعا، مبرّرة بإرادة الدولة، مباركة من هياكلها. وليس هذا إلّا منطلقا في درب المساواة الطويل الذي يبدأ بالقانون، ولا ينتهي معه، وإنّما يجب أن يستمرّ بعملٍ طويل النفس في عمق الصعيد الاجتماعيّ" (131). وتطرح هذه الفلسفةُ مشكلتين. أولاهما التفكيرُ في ما يجب أن يكون، لا تقنينُ ما هو كائن، فالتطلّع يتعلّق بما هو مرغوبٌ متمنّى، لا بما هو قائم حادث. والمرغوب الذي يجب أن يكون يختلفُ فيه الناس، فمنهم من يعدّه محاولةً لتشريع ما لا يحتاج إليه المجتمع، ولا يعبّر عن ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ ولا حقيقةٍ واقعيّة، ومنهم من يعدّه ترفا فكريّا يترجم حاجات طبقةٍ معيّنة ولا صلةَ له بمطالب أغلبيّة الفقراء والعاطلين والمهمّشين. والمشكلة الثانية استعمالُ القانون للضبط الاجتماعيّ القسريّ، فبداية درب المساواة بالقانون قبل التغيير في العمق الاجتماعيّ معناها إخضاعُ الناس جميعا للقانون، وإكراهُ من رفضه على العمل به إلى أن يألفه، فالمجتمع التونسيّ اليوم ما زالت فيه مرجعيّات غير حداثيّة، تضبط معاملات الناس، وتؤثّر في السلوك، وإن ضَعُفت. وكان يُفترض أن يساهم التعليمُ والنشاطُ الثقافيّ والفكر الحداثيُّ والإعلامُ وعملُ الأحزاب والمجتمع المدنيّ والتنميةُ الاقتصاديّةُ في تغيير العقليّة والثقافة وتفكيك المرجعيّات التقليديّة، وتهيئةِ الناس لتجديد التشريع، لكنّ هذا العمل لم يُنجز أو لم يتمّ، فكيف يوضع اليوم قانونٌ لا يعبّر عن مطالبَ واقعيّةٍ، ولا يعالج ظواهر اجتماعيّة؟ ثمّ يُكرَه الناس على العمل به، أو يُستدرَجون إليه حتّى يألفوه!
ولم تكن اللجنة غافلةً عن هذه الحقيقة الاجتماعيّة، فرأتْ أن يُعمل ببعض الفصول بالتدريج في مسائل منها الميراث (ص 182) والمهر (ص 149) والعِدَّةُ (ص 155) ومنْح الطفلِ لقبَ أمّه (ص 172). واقترحت في الميراث مثلا ضمانَ المساواة قانونا، "لكن يقرّ القانون للمورّث (الأب بالنسبة إلى أبنائه، الجدّ بالنسبة إلى أحفاده، الأخ أو الأخت بالنسبة إلى إخوته) بحقٍّ يخوّل له أن يوصي في قائم حياته بقسمة تركته، حسب نظام للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنْثَييْن". إلّا أن هذا الحلّ قد يؤدّي إلى تثبيت الانقسام، فيعمل فريق من المواطنين بالمقترح الأوّل (المساواة)، ولا يعمل الفريق الثاني إلّا بالمقترح الثاني. ولا يُستبعد أن تبرز في المستقبل مطالباتٌ بإجراء هذا التمييز في مسائل أخرى.
والملاحظة الرابعة أنّ في التقرير فصولا لا تستوعب المعاني التي اقتُرحت من أجلها، فحماية الحياة الخاصّة، مثلا، فيها فصول ضبطت عقوبة من يعتدي على حياة غيره الخاصّة. والأفعالُ المجرَّمة هي "التنصّت على الأقوال الصادرة عن شخص على سبيل خاصّ أو سرّيّ أو
وضبط فصل آخر عقوبة من ينشر "بإحدى الطرق العلنيّة أخبارا أو صورا أو تعليقات تتّصل بأسرار الحياة الخاصّة أو العائليّة للأفراد ولو كانت صحيحة إذا كان الغرض من نشرها الإساءة إليهم"، فكيف يمكن ضبط معنى "الإساءة"؟ وهل تسقط العقوبة إذا وقعت الإساءة من غير قصد إليها؟ وهل من حقّ المتضّرر أن يطالب بمحاكمة من كشف حياته الخاصّة وهو لا يُضمر الإساءة إليه؟ ويستفاد من هذا أنّ الفصول المقترحة في حماية الحياة الخاصّة لم تميّز بين أمرين مختلفين، جمعُ المعلومات الخاصّة واستعمالُها، ولم تستوعب جميع الحالات التي يمكن أن تُنتهك فيها.
ويستفادُ من قراءة جملة التقرير أنّه عمل مهمّ في طريق إقرار الحريّات الخاصّة وتقنينها، وأنّ قيمته في فصولِه التي يتّفق عليها التونسيّون، ومقترحاتِه التي يختلفون فيها، فتفتحُ باب الحوار لتطوير التشريع، وتثبيت أسس الدولة المدنيّة.