التمويل الأجنبي للنشطاء في مصر.. الحقائق والأكاذيب

التمويل الأجنبي للنشطاء في مصر.. الحقائق والأكاذيب

02 يونيو 2019
+ الخط -
تحرص النظم المستبدة على السيطرة على عقول شعوبها، كحرصها على السيطرة عليهم أمنياً واقتصادياً وبمختلف الطرق. ولا تتورّع عن الكذب وتشويه الحقائق، وقلبها رأساً على عقب، لتنزيه أنفسها وتشويه معارضيها. ومن النماذج الواضحة لهذه الجهود، ما تعرف بقضايا التمويل الأجنبي للنشطاء في بلادنا العربية. وهي قضية أثارتها الحكومات المصرية المختلفة قبل انتفاضة يناير 2011 وبعدها، وسيلة لتشويه صورة النشطاء السياسيين من ناحية، وإقناع الجماهير بأنها ضحية مؤامرة أجنبية من ناحية أخرى.
وللأسف، يقتنع فئة واسعة من المصريين، بما في ذلك بعض النشطاء، بأن التمويل الأجنبي للنشطاء السياسيين في مصر يؤدي دوراً مهماً في التأثير على مجريات الأمور، وهناك من ينطلق من منظور وطني رافض التدخل الخارجي، وينطلق آخرون من منظور إيديولوجي، نظراً إلى أن تلك التبرعات تذهب إلى جماعاتٍ بعينها (المدنية أو العلمانية)، وتتجنب أخرى (المتدينة). وبعد انتفاضة يناير، حوّل المجلس العسكري التمويل الأجنبي إلى قضية كبرى، إذ توسعت وسائل الإعلام الموالية له وللنظام في اتهام أنصار الثورة بالعمالة، وبتلقّي التمويل الأجنبي. كما شنّ المجلس، في نهاية عام 2011، حملة واسعة لملاحقة وإغلاق أكبر المنظمات السياسية الأجنبية العاملة في مصر. وقبض على عاملين مصريين وأجانب فيها وحاكمهم.
وبعيداً عن التعقيدات القضائية، يركز المقال على الجوهر السياسي والمالي لقضية التمويل 
الأجنبي للنشطاء في مصر، وهو البعد الذي يشغل الرأي العام المصري، ويحاول فهمه من خلال طرح أسئلة أساسية حول حجم هذا التمويل ومدى تأثيره، وأهم تبعاته السياسية.
في البداية، تجب الإشارة إلى أن دولة كبرى، كالولايات المتحدة، ترفض التمويل الأجنبي لأي نشاط حزبي أو انتخابي أميركي. وهذا يعني أنها تسمح للأجانب بتمويل أنشطة حقوقية وتعليمية وثقافية مختلفة على أراضيها، كتمويل منظمات حقوقية، ولكنها تحرّم تلقي المرشحين السياسيين تمويلاً أجنبياً لحملاتهم الانتخابية، حتى لا يتدخل المال السياسي الأجنبي في شراء ذمم السياسيين الأميركيين. ويمكن القول إن القوانين السابقة لا تمثل ضمانة حاسمة لمنع تأثير الخارج على السياسة الأميركية، فدولة كإسرائيل ليست في حاجة للتبرّع للسياسيين الأميركيين، لأن لديها لوبي داخلياً محلياً داعماً لها بقوة. وتنشط مختلف الدول في مجال اللوبي والعلاقات العامة في واشنطن من خلال استئجار شركات خاصة، لتحسين صورهم وتوثيق علاقاتهم بصانعي القرار في واشنطن، وهي شركاتٌ تعمل بشكل قانوني. كما أن الخارج يمكن أن يؤثر على الداخل من خلال الإعلام أو الهجمات الإلكترونية، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، ناهيك عن تشابك المصالح الاقتصادية والثقافية المختلفة.
وهذا يعني أن منع التدخل الأجنبي في شؤون الدول الكبرى قضية مستحيلة عملياً، وغير منطقية في أحيان كثيرة، كحالة الشركات الاقتصادية الدولية العملاقة التي تؤثر على المصالح الاقتصادية بين الدول. ولذا من الأفضل أن تسعى الدول إلى تحصين أنفسها ضد التدخل الأجنبي، من خلال بناء قواها المختلفة، وتعميق مؤسساتها الديمقراطية ووعي مواطنيها، فالدولة إذا كانت ثرية قوية وشعبها واع متعلم تكون أقل عرضةً للتأثير الأجنبي السلبي على شؤونها الداخلية. وهو تأثير يستحيل تلافيه، والقضاء عليه، لتداخل المصالح والكيانات الاقتصادية 
والثقافية والعرقية وغيرها بين الدول.
وتعدّ مصر دولة مستقبلة للمساعدات الخارجية خلال العقود الأخيرة، وهي إحدى كبرى الدول المستقبلة للمساعدات الأميركية في العالم منذ نهاية السبعينيات. إذ تلقت نحو 80 مليار دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية من أميركا وحدها منذ عام 1979. وهي مساعدات ذات هدف سياسي واضح ومعلن، هو الحفاظ على التحالف المصري الأميركي، وجعل مصر معتمدة عسكرياً وسياسياً على الولايات المتحدة، بما يضمن عدم نشوب حرب جديدة بين مصر وإسرائيل. وقد ساعدت المساعدات الاقتصادية النظام المصري على تثبيت قدميه ومواجهة أزمات مختلفة، كالديون ونقص السيولة وضعف التمويل. كما سمحت له بتأخير الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المطلوبة لتطوير أوضاع الاقتصاد المصري، إذ مثلت المعونة طوق نجاة ساعد النظام على تأخير الإصلاحات الصعبة عقوداً. وباتت المساعدات العسكرية تمثل أخيراً نحو ثلث الميزانية العسكرية المصرية، وهي تتضمن برامج لتدريب كبار الضباط المصريين في الولايات المتحدة، وهو ما أثر كثيراً على توجهات قادة الجيش والنظام المصري تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين باتتا تنظران إلى الجيش المصري أهم ضامن لسياسة مصر الرسمية المؤيدة لهما.
أما المساعدات الأميركية الموجهة لدعم الديمقراطية فظلت بعيدة عن مصر فترة طويلة، حرصاً من الإدارات الأميركية المختلفة على عدم الإضرار بعلاقاتها بمصر، التي تدور في فلك السلام بين مصر وإسرائيل. ولذا تراجعت أميركا عن تمويل برامج نشر الديمقراطية في مصر إلى ما بعد غزو العراق، إذ تبنت إدارة جورج دبليو بوش سياسة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. وقد بلغت تلك المساعدات قبل ثورة يناير، وفي أوج إنفاق إدارة بوش على نشر الديمقراطية في مصر، وتحديداً عام 2008، نحو 54 مليون دولار، وهو مبلغ لم يذهب كله للمؤسسات الحقوقية المصرية المعارضة، وإنما ذهب ثلثه تقريباً للمؤسسات الأميركية العاملة في مصر، وذهب جزء آخر للحكومة المصرية نفسها لإنفاقه على برامج كالرقابة على الانتخابات ومحاربة الفساد، وربما ذهب جزء صغير (أقل من مليون دولار) لمعارضين لم تحصل منظماتهم على ترخيص رسمي من الحكومة المصرية. ويفيد إحصاء آخر بأن هيئة المعونة الأميركية، قدمت 80 منحة مباشرة لمنظمات مجتمع مدني مصرية بين عامي 2005 و2008. وتراوح حجم تلك المنح بين 192 ألف دولار، و1.4 مليون دولار.
وتوضح الحقائق والأرقام السابقة أن المنح التي قدمتها الحكومة الأميركية، وهي أكبر المانحين 
الدوليين لمصر، للنشطاء السياسيين كانت صغيرة للغاية في أوج الإنفاق الأميركي على برامج نشر الديمقراطية في مصر، وأنها لا تستحق كل الجدل المثار حولها في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، فالحكومة المصرية هي المتلقي الأكبر للمساعدات الخارجية، وهي مساعداتٌ دعمت النظم المختلفة، وساعدتها على تأجيل الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة، بل ساعدتها على قمع معارضيها، كما الحال في المساعدات الشرطية والاستخباراتية. أما المساعدات الديمقراطية فهي طارئة على المساعدات الغربية لمصر، ولم تتعد بضع ملايين الدولارات سنوياً في أوج الإنفاق، وهي أموالٌ حرصت الحكومة على منافسة منظمات المجتمع المدني عليها، ومراقبتها ومنعها من تلقيها ومن استخدامها بحرية. ولا تسلم تلك المساعدات من نقد جادّ، فقد عانت دوماً من تفضيل نخب بعينها. إذ تجنب المانحون الغربيون الجماعات الدينية، خوفاً من إغضاب النظام والدوائر الغربية اليمينية المتشدّدة. وهذا يعني أن المساعدات الأجنبية ميّزت ضد التيار الديني، وساهمت في تعميق الخلاف بينهم وبين الجماعات المدنية أو العلمانية، كما قدمت تلك المساعدات لنخب محدودة في القاهرة والمدن الكبرى، وربما لم تخضع لرقابة كافية أو تتحرّر كلية من أجندة المنظمات المانحة.
ولكن تبقى حقيقة، أن تلك المساعدات لم تكن بالكمّ الذي يستحق كل الجدل المثار حولها، وأن الحكومة المصرية نفسها تعيش على المساعدات الأجنبية التي تؤثر على القرار السياسي المصري. وأنها لم توفر الظروف الملائمة لمنظمات المجتمع المدني المصرية، للعمل بحرية وجمع التبرعات داخلياً. وأن الجدل المثار بشأن المساعدات الأجنبية المقدمة لنشطاء الديمقراطية في بلادنا مصطنع، تسيطر عليه الأنظمة، لتحسين صورتها وتشويه صورة معارضيها وقلب الحقائق رأساً على عقب. وللأسف، يقع في براثنه مواطنون ومعارضون أيضاً.