أهالي غزة بالدوحة يستذكرون عدوان 2014: الجرح ينمو معنا

أهالي غزة بالدوحة يستذكرون عدوان 2014: الجرح ينمو معنا

12 يوليو 2023
أتمّ العدوان على غزة عامه التاسع هذا الشهر (فرانس برس/ Getty)
+ الخط -

في الثامن من يوليو/ تموز الحالي أتمّ العدوان الإسرائيلي الثالث على قطاع غزة الذي وقع صيف 2014 عامه التاسع.

يصف الفلسطينيون في غزة تلك المرحلة التي عايشوها بأنها أشرس وأعنف هجمة تعرضوا لها منذ بداية انتفاضة الأقصى، وقد استمرت تلك الهجمة الإسرائيلية 51 يوماً، وأطلقت عليها قوات الاحتلال عملية "الجرف الصامد".

وبحسب تقارير صحافية وحقوقية، فإن إسرائيل بسلاحها الجوي والبحري والبري شنّت قرابة 70 ألف غارة في مناطق متفرقة من القطاع، أدت إلى استشهاد 2322 فلسطينياً، بينهم 578 طفلاً، و489 امرأةً، و102 مسن، فيما هُدمت 12 ألف وحدة سكنية بشكل كلي، وبلغ عدد المهدمة جزئياً 160 ألف وحدة.

وارتكبت إسرائيل مجازر بحق 144 عائلة بغزة، قُتل من كلّ منها ثلاثة أفراد أو أكثر، بحسب إحصائية لوزارة الصحة.

بعد انتهاء ذلك العدوان، هاجرت المئات من العوائل كاملة من قطاع غزة إلى الدول المجاورة وأوروبا، كما هاجر آلاف الشبان من عمر 18 إلى 40 عاماً توالياً بشكل فردي وجماعي، من دون وجود إحصائية دقيقة لأعداد المهاجرين بعد عدوان 2014.

لم يسلم أحد في غزة من تلك الهجمة الإسرائيلية، فمنهم من تعرض لأذى جسدي، وآخرون تعرضوا لخسائر مادية، أما الأشخاص الذين نجوا من أي أضرار جسدية ومادية، فتعرضوا، وما زالوا، لأذى نفسي رغم مرور تسع سنوات.

وفي هذا السياق، قابل "العربي الجديد" أشخاصاً عاشوا تلك التجربة، وهم الآن مقيمون في العاصمة القطرية الدوحة، منذ سنوات. وركزت المقابلات على محاولة الإجابة عن تساؤل مركّب، وهو إلى أي مدى انعكس عدوان 2014 على مسار حيواتهم، وهل مغادرة غزة كفيلة بنسيان ذكريات الحرب؟

صدمات متتالية

حاول الشاب محمود أبو ندى (32 عاماً)، وهو أحد هؤلاء الذين خاضوا تلك التجربة، الإجابة عن هذا السؤال. يقيم أبو ندى الآن في الدوحة، وقد سافر إلى العاصمة القطرية في شتاء 2017، ويعمل الآن محاسباً في شركة خاصة تابعة لأحد أقاربه.

أبو ندى كان يبلغ من العمر 23 عاماً في عدوان 2014، وعلى أعتاب التخرج من كلية التجارة - قسم المحاسبة في الجامعة الإسلامية.

أول صدمة تعرض إليها المحاسب كانت قبل غروب يوم 13 - 7 - 2014، حين قُتل صديق الطفولة وزميل دراسته الجامعية محمد الشراتحة (23 عاماً) باستهداف من طائرة استطلاع خلال مساعدة جده في أرض زراعية صغيرة مجاورة لمنزلهم الواقع شرق مخيم جباليا شمال القطاع.

يقول أبو ندى: "حين جاء خبر استشهاد محمد، فقدت السيطرة على نفسي، يومها بقيت ثلاثة أيام لا أكلم أحداً، أجلس فقط في الغرفة بصحبة السجائر. لم أستطع توديع محمد، وقد دُفن على وجه السرعة بسبب الأوضاع، محمد كان يحمل قلباً طيباً، وشخصاً هادئاً، كان مصدر طاقة إيجابية لي".

في منتصف أغسطس/ آب، ومع مرور 37 يوماً على العدوان، كان أبو ندى قد فقد، إلى جانب صديقه محمد، 4 أصدقاء آخرين.

يقول: "لم أتعرض لإصابة جسدية، ولم يدمّر منزلي، ولكن فقدت خمسة أصدقاء، اثنان منهم أصدقاء طفولة، وثلاثة آخرون زملاء وأصدقاء تعرفت إليهم خلال رحلتي الدراسية".

بجانب صدمة فقدان الأصدقاء، تعرض الشاب إلى صدمة ثانية، ولكن هذه المرة مادية، حين دُمّر محله الصغير بشكل كامل.

المحل كان مخصصاً لبيع مساحيق التجميل والمستلزمات الصحية، يجاور برج الباشا الواقع وسط حي الرمال بغزة، والذي دمّرته طائرات الاحتلال في الساعات الأخيرة من العدوان.

يتابع الشاب المحاسب بعد أن أطفأ سجارته الرابعة: "فتحت المحل في 2012 بالشراكة مع صديقي ياسر، وخلال عامين من الجهد والمتابعة تطور المحل، وأصبح لدينا زبائن بالعشرات، ووصلت قيمة المحل تقريباً إلى 35 ألف دولار، كانت أجمل فترات حياتي، لك أن تتخيّل أن طالباً جامعياً يستطيع الدراسة على نفقته الخاصة إلى جانب أنه يساعد عائلته المكونة من 13 فرداً".

بعد انتهاء العدوان، أصبحت حصيلة خسائر الشاب خمسة أصدقاء ومصدر رزقه. أمام هذا الأمر، حاصرته فكرة الهجرة، لكن فكرة انتظاره التعويضات من الجهات المانحة كانت توقف قرار الهجرة.

يتابع أبو ندى: "تم رصد أضرار المحل من قبل وزارة الاقتصاد، وكنت أنتظر أي تعويضات لمحاولة النهوض مرة أخرى، ولكن حين أيقنت أنه لن تكون هناك تعويضات للمشاريع الصغيرة، اتخذت قرار الخروج من غزة لمحاولة النهوض من جديد".

خلال عدوان 2014 تضررت نحو 500 منشأة اقتصادية من المنشآت الكبيرة والاستراتيجية، والمتوسطة والصغيرة، ولم يحصل على تعويضات سوى 6 في المائة من إجمالي المتضررين، وفقاً لما أكده الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر لـ"العربي الجديد".

أبو ندى اليوم متزوج ولديه طفل يدعى محمد (عامان) نسبة لصديقه محمد الذي استشهد في العدوان، ويفكر في نهاية العام بزيارة عائلته بعد انقطاعه عنها قرابة 6 سنوات.

رغم أن الشاب في محطة جديدة في حياته على صعيد الأسرة والعمل، إلا أن انعكاسات عدوان 2014 ما زالت تنمو معه. وظهر ذلك بعدما أطفأ سيجارته السادسة، وزاد في القول: "كنت أعتقد أنه بخروجي من غزة، ستنتهي ذكريات عدوان 2014، ولكن في الحقيقة تلك الذكريات تكبر معي ومن الصعب إزالتها، يكفي أنه حين يأتي شهرا يوليو وأغسطس أشعر بغصة في القلب، وأود أن أقضي الشهرين غارقاً في النوم، فحين أسمع رقم 7 و8 أتذكر العدوان الثالث على غزة".

وهنا، يعلّق خبير الأعصاب والطبيب النفسي محمد أبو السبح بالقول: "لا يمكن في أي حال من الأحوال للصدمات التي تعرّض إليها سكان غزة أن تمحى مع مرور السنوات، يمكن التعايش معها والتخفيف من حدتها بممارسة الرياضة، وتقبل الحادثة، ولكن فكرة شطبها من الذاكرة أمر مستحيل، لذلك ما يتعرض له الأشخاص من شوائب الهجمات العسكرية أمر طبيعي".

رحلة نزوح

أما الشابة الفلسطينية مروة وليد (34 عاماً) المقيمة في الدوحة مع زوجها كريم (38 عاماً) وأطفالها الأربعة منذ عام 2018، فلديها حكاية مختلفة في عدوان 2014، وخاصة في رحلة نزوحها.

في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وتحديداً في منطقة تُعرف بأرض المفتي، كانت تقطن مروة مع عائلة زوجها في منزل كبير مكوّن من ثلاث طوابق، ويضمّ أربع عوائل، بينهم 9 أطفال، و5 سيدات، وعجوز.

في مساء 24 يوليو/ تموز 2014 تعرّضت الأرض المجاورة للمنزل إلى ضربات متتالية من الطائرات الحربية الإسرائيلية، ليقرّر عندها رجال العائلة الخروج من المنزل حفاظاً على الأرواح، خصوصاً بعدما دُمّرت النوافذ ودخلت من خلالها الشظايا.

في حلول الساعة التاسعة مساءً، خرجت العائلة كاملة بهلع، مصحوبة ببكاء الأطفال التسعة. كانت مروة تبلغ وقتها 25 عاماً، لديها طفل يُدعى زيد (ثلاث سنوات)، فيما أنجبت قبل العدوان بشهر رضيعتها ليان.

تقول مروة عن تلك الساعات: "خرجت من المنزل، في يدي أحتضن رضيعتي، وفي اليد الأخرى كنت أمسك بيد زيد بكل قوتي، الحطام في كلّ مكان، الكهرباء منقطعة، والطائرات كانت تغطي السماء، أكثر الأشياء رعباً ما كانت تلقيه الطائرات من فوانيس إنارة، كنت أشعر بأنني أسير في قعر النار، كل ما كنت أفكر به رضيعتي وطفلي".

بجانب مروة، كان زوجها يحمل جدته العجوز المقعدة، واستمرت رحلة النزوح قرابة كيلومترين سيراً على الأقدام، باتجاه إحدى مدارس "الأونروا" التي فتحت أبوابها للنازحين.

وقد فتحت "الأونروا" مراكز لإيواء النازحين من منازلهم التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية خلال الحرب، إذ استوعبت نحو 300 ألف نازح، في أكثر من 91 مدرسة، ومنشأة تابعة للوكالة، بحسب بيان صادر عن الأمم المتحدة.

بهدوء تسحب مروة شهيقاً، وتكمل: "مشينا تقريباً نصف ساعة. شعرت بهذه المدة الزمنية كأنها مائة عام فعلاً، كل خطوة كنت أشعر بأنها ميل، ما شاهدته في مسلسل التغريبة الفلسطينية حصل معي بالفعل، وأيقنت تماماً الشعور الذي سيطر على أجدادي لحظة نزوحهم وسط القنابل والرصاص أيام النكبة الفلسطينية".

وصلت العائلة إلى مدرسة "ج" الإعدادية للبنات التابعة للوكالة، ومكثت هناك لمدة ثلاثة أيام، في أحد فصول المدرسة، ثم عادت إلى منزلها الكبير بعد ما أفرغت الطائرات الحربية حمولتها الصاروخية في المكان، وحوّلت الحي إلى منطقة تشبه حي الأشباح.

انتهى العدوان، وبدأ زوج مروة يفكر جدياً في الخروج من غزة، ومن خلال محاولات استمرت لمدة أربعة أعوام، نجح في الحصول على عمل في الدوحة.

تكمل مروة: "قرار الخروج من غزة ليس بحثاً عن الطعام والمأكل، بقدر ما هو بحث عن الأمان، وهو ما وجدناه فعلاً في الدوحة".

وعن الآثار النفسية لتلك التجربة، تختم مروة حديثها، فيما ليان التي أصبح عمرها الآن تسع سنوات تجلس بجوارها على الأريكة: "ما زلت أعاني من تلك الهجمة العسكرية، فكلما سمعت صوت طائرة مسافرة في سماء الدوحة، أتذكر النصف الساعة تلك خلال النزوح"، وتضيف: "صحيح أنني غادرت غزة ونجوت بأطفالي، ولكن لم ولن تغادرني تلك الذكريات".